📁 آخر الأخبار

بابُ الْإِيغال

بابُ الْإِيغال

مُسَمّى هَذَا النَّوْعُ إيغالًا؛لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَوِ الشَّاعِرَ أَوْغَلَ في الْفِكْرِ حَتّى اسْتَخْرَجَ سَجْعَةً أَو قافِيَةً تُفِيدُ مَعْنًى زائِدًا على مَعْنَى الْكَلَامِ.


وَأَصْلُهُ مِنَ الْإِيغَالِ فِي السَّيْرِ،وَهُوَ السُّرْعَةُ،فَإِنَّ الْإِيغَالَ فِي السَّيْرِ يُدْخِلُ السّائِرَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَقْصِدُهُ بِسُرْعَةٍ، يُقَالُ: أَوْغَلَ فِي الْأَرْضِ الْفُلَانِيَّةِ،أَيْ:بَلَغَ مُنْتَهَاهَا،أَوْ مَا قَارَبَهُ، فَكَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ تَجَاوَزَ حَدَّ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ آخِذٌ فِيهِ،وَبَلَغَ إِلَى زِيَادَتِهِ عَنِ الْحَدِّ،كَمَا أَنَّ مَنْ دَخَلَ العَريشَ مَثَلًا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ،فَقَدْ دَخَلَ مِصْرَ،فَإِذَا أَوْغَلَ فِي مِصْرَ،فَوَصَلَ إِلَى الصَّعِيدِ، يُقَالُ: قَدْ أَوْغَلَ فِي مِصْرَ؛لِتَجَاوُزِهِ الْحَدّ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ،فَكَذَلِكَ الْمُتَكَلِّمُ إِذَا تَمَّ مَعْنَاهُ،ثُمَّ تَعَدَّاهُ عِنْدَ الْإِتْيَانِ بِسَجْعَةٍ، أَوْ قافِيَةٍ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ،فَقَدْ أَوْغَلَ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى،وَلَا يَكُونُ مُوغِلًا حَتَّى يَنْتَهِيَ مَعْنَاهُ إِلَى آخِرِ الْبَيْتِ،وَهَذَا الْبَابُ مِمَّا فَرَّعَهُ قُدَامَةُ أَيْضًا مِن إئتلافِ الْقَافِيَةِ مَعَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سائِرُ الْبَيْتِ،وَفَسَّرَهُ بِأَنْ قالَ: هُوَ أَنْ يَسْتَكْمِلَ الشَّاعِرُ مَعْنَى بَيْتِهِ بِتَمَامِهِ قَبْلَ أَنْ يَأتِيَ بِقَافِيَتِهِ،فَإِذَا أَرَادَ الْإِتْيَانَ بِهَا لِيَكُونَ الْكَلَامُ شِعْرًا،أَفَادَ بِهَا مَعْنًى زائِدًا عَلَى مَعْنَى الْبَيْتِ. نَحْوُ قَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ[طَوِيل]:


قف العيس في آثار ميّة واسأَل ... رسومًا كَأَخلاق الرداء المسلسل


فَتَمَّ كَلَامُهُ قَبْلَ الْقَافِيَةِ،فَلَمَّا احْتَاجَ إِلَيْهَا،أَفَادَ بِهَا مَعْنًى زائِدًا.


وَكَذَلِكَ صَنَعَ فِي الْبَيْتِ الثَّانِي،

حَيْثُ قالَ:


أَظُنُّ الَّذِي يَجدي عَليك سُؤَالها ... دُموعًا كَتَبْذِيرِ الجمانِ الْمُفَصَّلِ


فَإِنَّهُ تَمَّ كَلَامُهُ بِقَوْلِهِ: كَتبْذِيرِ الجمانِ، وَاحْتَاجَ إِلَى الْقَافِيَةِ،فَأَتَى بِهَا تُفِيدُ مَعْنًى زائِدًا،وَلَوْ لَمْ يَأتِ بِهَا،لَمْ يَحصلْ.


وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَشْعَرِ النَّاسِ؟فَقَالَ: الَّذِي يَأتِي إِلَى الْمَعْنَى الْخَسِيسِ،فَيَجْعَلُهُ بِلَفْظِهِ كَبِيرًا، وَإِلَى الْكَبِيرِ،فَيَجْعَلُهُ خَسِيسًا،أَوْ يَنْقَضي كَلَامُهُ قَبْلَ الْقَافِيَةِ،فَإِنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا،أَفَادَ بِهَا مَعْنًى،فَقِيلَ لَهُ: نَحْوُ مَنْ؟ فَقَالَ: نَحْوُ الْفَاتِحِ لِأَبْوَابِ الْمَعَاني امْرِئِ الْقَيْسِ،حَيْثُ قَالَ[طَوِيل]:

كَأَنَّ عُيونَ الْوَحْشِ حَوْلَ خبائِنا ... وَأَرحلنا الجزع الَّذِي لَم يثقب


فَإِنَّهُ انْقَضَى كَلَامُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ:

"الجزع "،ثُمَّ أَفَادَ بِالْقَافِيَةِ مَعْنًى زائِدًا، إِذْ قال: " لَمْ يثقب "؛لِأَنَّ عُيُونَ الْبَقَرِ غَيْرُ مُثقبة.


وَنَحْوُ زُهَير،حَيْثُ يَقُولُ[طَوِيل]:

كَأَنّ فتات العِهن في كُلّ مَنزل ... نَزلن به حَبّ الفنان لم يحطم

فَإِنّ حَبّ الفنان أَحمر الظّاهر،أَبيض الباطن،فهو لا يشبه الصّوف الأَحمر 

إِلّا ما لَمْ يحطم،وَقَد يَكُونُ الْإِيغالُ تَتْمِيمًا،كَبَيْتَي امرئ القيس وَزُهير،

وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى إِلَّا إِيغالًا لِانْتِهَاءِ الْمَعْنَى إِلَى آخِرِ الْبَيْتِ،وَهَذَا إِيغالُ الاحْتِياط،وَهُوَ دُونَ إِيغالِ الْمُبالَغَةِ مِن جِهَةِ الاصْطِلَاحِ؛لِكَوْنِهِ لَمْ يُفِدْ إِلّا الاحْتِياط مِن الدّخل دونَ الإِتيانِ بِمَعْنَى زائِدٍ على مَعنى الكلام، وَالْإِيغالُ الَّذِي لَيْسَ بِتَتْمِيمٍ في بَيْتَي ذي الرُّمَّةِ هُوَ إِيغالُ الْمُبَالَغَةِ.

وَأَعْظَمُ ما وَقَعَ في هَذَا الْبَابِ قَوْلُ الخنساء[بَسِيط]:

وَإِنَّ صَخْرًا لَتَأتَمُّ الْهُدَاةُ بِهِ ... كَأَنَّهُ عَلَمٌ في رَأسِهِ نارُ


وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ لَوْ أُفْرِدَ بِالتَّمْثِيلِ في هَذَا الْبَابِ،لَأَغْنَى عَمَّا ساقَهُ قُدامَةُ في بابِ ائْتِلَافِ الْقَافِيَةِ مَعَ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ سائِرُ الْبَيْتِ مِن بابَي التَّوْشِيحِ وَالْإِيغالِ؛لِأَنَّ صَدْرَهُ يَدُلُّ عَلَى عَجُزِهِ دَلَالَةَ التَّوْشِيحِ،وَمَعْنَى جُمْلَةِ البيت كامِلٌ دونَ قافيتِه،وَفيهِ بِوُجودِها زِيادَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُ قَبْلَها،فَإِنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ لَمْ تَرْضَ لِأَخيها بِأَنْ تَأتَمَّ بِهِ هُداةُ النّاس،حَتّى جَعَلَتْهُ عَلَمًا يَأتَمُّ بِهِ أَئِمَّةُ النَّاسِ،وَهَذَا تَتْمِيمٌ أدمج في صدر لفظ التّوشيح،وَلَمْ تَرْضَ تَشبيهَهُ بِالْعَلَم،وَهُوَ الْجَبَلُ الْمُرْتَفِعُ الْمَعْرُوفُ بِالهدايَة،حَتّى جَعَلَتْ في رَأسْهِ نارًا. 


وَإذا وصلت إلى بلاغة القرآن العزيز، وصلت إلى الغاية القصوى،وذلك قوله تعالى:((وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوا مُدْبِرِينَ))،فَإِنَّ الْمَعْنَى قَدْ تَمَّ بِقَوْلِهِ_ سُبْحانَهُ_: " وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ "،ثُمَّ أَرادَ وَهُوُ يَعْلَمُ تَمام الكلام

بِالفاصِلَةِ،فَقال: " إِذَا وَلَّوا مُدْبِرِينَ " فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى مُدْبِرِينَ؟،وَقَد أَغْنَى عَنْهَا قَوْلُه: " إِذَا وَلَّوا "،قُلْتُ:

لَا يُغْنِي عَنْهَا قَوْلُهُ: " وَلَّوا "،فَإِنَ التَّوَلِّي قَدْ يَكُونُ بِجانِبٍ دُونَ جانِبٍ،بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ((أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ))،وَإِنْ كانَ ذِكْرُ الْجَانِبِ هُنَا مَجازًا،وَلَا شَكَّ أَنَّهُ_ سُبْحَانَهُ_ لَمّا أَخْبَرَ عَنْهُم أَنَّهُم صُمُّ لا يَسْمَعون،أَرادَ تَتْمِيمَ الْمَعْنَى بِذِكْرِ تَوَلّيهم في حالِ الخِطاب،لِيَنْفِيَ عَنْهُم الْفَهْمَ الَّذِي يَحصلُ مِن الإِشارَة،فَإِنَّ الْأَصَمَّ يَفْهَمُ بِالإِشارَةِ ما يَفْهَمُهُ السَّمِيعُ بِالْعِبَارَةِ،ثُمَّ علم أن التولي قد يكون بجانب من المُتولّي،فيجوز أن يلحظ بالجانب الّذي لَمْ يَتَوَلَّ بِه،فَيحصلُ له إدراك لبعض الإشارة،فَجَعَلَ الْفًاصِلَةَ مُدْبِرِينَ ليعلم أن التولي كان بجميع الجوانب، بحيث صار ما كان مُستقبلًا مُستدبرًا، فَاحتجبَ المُخاطَبُ عَن المُخاطِب،إذ صار من ورائه،فخفيت عن عينيه الإشارة،كَما صُمّ أذناه عن العبارة، فحصلت المبالغة في عدم الإسماع بالكليّة،وهذا الكلام وإن بولغ فيه بنفي الإسماع بتّة،فهو من إيغال الاحتياط الّذي أدمجت فيه المبالغة في نفي الإسماع،قد يأتي الاحتياط في غير المقاطع من مجموع جمل متفرقة في ضروب من الكلام شتّى يجمعها معنى واحد،كقوله تعلى:

((قُل لَّئِن اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ)) الآيَة،وَقَوْلُه_ سُبْحَانَهُ_:

((قُلْ فَأتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ)) وَقَوْلُهُ: " فَأتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِّثْلِهِ "،كَما يَقولُ الرَّجُلُ لِمَن يَجحده: ما يستحقُّ عَلَيَّ دِرْهَمًا وَلا دانقًا وَلا حَبَّةً،وَلا كَثيرًا وَلا قَليلًا، ولو قال: ما يستحقُّ عَلَيَّ شَيْئًا،لَأَغنى في الظّاهِر عن ذلك،لكن التّفصيل والتّنزّل دَلَّ عَلَى الاحْتِيَاطِ وَعلَى شِدَّةِ الاسْتِبْصَارِ في الْإِنْكَارِ.

 إِيغال الكتاب العزيز

وَمِن إِيغال الكتاب العزيز أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى:((اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وُهُم مُّهْتَدُونَ))،فإن المعنى تَمَّ بِقَوْلهِ_ سُبْحَانَه_: " مَن لا يَسْأَلُكُم أَجْرًا "،ثُمَّ أَراد الفاصلة لمناسبة رُؤُوس الآي،فَأَوْغَلَ بها كما ترى،حيث أتى بها تفيد مَعْنًى زائِدًا على معنى الكلام، وجاء في الكلام إيغال حسن بعد تتميم.

وَلقد أحسن ابن المعتز في قوله لابن طباطبا العلوي[مُتقارِب]:

فَأَنتم بَنُو بِنته دونَنا ... وَنَحْنُ بَنُو عَمِّهِ الْمُسْلِمِ

قد يعجبك ايضا


فإنه أعطى بني عمه حقهم من الشَّرف،واعترف لهم من فضل الأبوين بما اعترف،ثم فطن إلى أنّه إن اقتصر على ذلك فضلهم على بنته،فتحيل على المساواة، إذ لا طريق له إلى التّفضيل بأن قال:


وَنَحْنُ بَنُو عَمِّه المسلم

إيغال التَّخْيِير

فَجعل هذا الفضيلة قُبالَة تِلك،وَهذا القِسم من الإيغال يحسن أن يُسَمّى إيغال التَّخْيِير،فإنه تخيّر من القوافي الّتي تفيد الإيغال قافية يكون ما تفيده موفيًا بمقصوده من غير معارضة،فإنّه لو قال: " بنو عمه الأفضل " لكونه مُسلمًا،لَعورِضَ بحمزة _رضي الله عنه_،وهو إيغال الاحتياط،لكونه تتميمًا للمعنى؛ وقد ذهب بعض النّقّاد إلى أنه بهذا الإيغال أراد الاستدلال على استحقاق بني العبّاس الخلافة وسوى بين بيته،

وبيت مروان بن أبي حفصة وهو قوله [كامِل]:

أَنَّى يَكُونُ وَلَيْسَ ذَاكَ بِكَائِنٍ ... لِبَنِي الْبَنَاتِ وِرَاثَةُ الْأَعْمَامِ


وَبَيْنَ الْبَيْتَيْنِ بَوْنٌ بَعِيدٌ فِي الْجَوْدَةِ وَصِحَّةِ الْمَعْنَى،فَإِنَّ بَيْتَ ابْنِ الْمُعْتَزِّ أٌصر وزنًا وأَصحّ معنى،وأَعذب أَلفاظًا، وأَوجز جملًا،وأَخفّ محملًا مع ما وقع فيه من التّلطُّف لبلوغ الغرض من غير مجاهرة بلفظ ولا مواجهة بمضض، فَأَمّا صحّة معناه بالنّسبة إلى بيت مروان،فَمِن جهة أن مروان زعم أن بني الأعمام أحقّ بالفضل من بني البنات،فأخذ بعموم هذا الاستدلال، وذهل عن أن هذه القضيّة الّتي هو آخذ فيها خارجة من هذا العموم؛لأنّ بني علي بنو بنات وبنو أعمام،وما ذكره مروان لا يتناول إِلّا مَن لَمْ يكونوا بني أعمام من بني البنات،فَأَمّا مَنْ لَم يمت بالقربة من طرفيه ويدلي بالاستحقاق من جهة أبويه،فخارج عما ذكر،ولا يقال هذا ما يرد على مروان؛لأنّه صرّح بالإرث،ولا الأعمام أحق بالإرث من بني البنات،فإنّي أقول: إن لم يرد بالإرث الفضل، فكلامه محال،إذ لا يصحّ أن يريد إرث المال ولا إرث الخلافة،أمّا المال فَلِأنّ النّبي_صلى الله عليه وسلم_ لا يورث،وسيأتي بيان ذلك.


وأمّا الخلافة،فَلِأنّ الخلافة لو كانت بالإرث لما وصلت لأبي بكر وعمر _رضي الله عنهما_قبل العبّاس_رضي الله عنه_فإذا أحسن الظّنّ بمروان حمل قوله وراثة الأعمام على وراثة الفضل، وحينئذ يأتي ما ذكرناه،ولم يرد بالأعمام إلّا بني الأعمام،وببني البنات إلّا بني عليّ_رضي الله عنهم_ فَإنّهُ مدح بالقصيدة الرّشيد،وعرّض بيحيى بن عبد الله بن الحسن بن علي، والأوّل بنو أعمام فقط،والأخر بنو أعمام وبنو بنات،فكانت للأوّل مِزْيَة لم تكن للآخَر،قابلها ابن المعتز بأن أباه بنو العمّ المسلم،فكانت هذه بتلك، فحصلت المساواة،فثبت الفضل لبيته على بيت مروان،وما يستكثر مثل هذا الجهل من مروان،وهو يقول في هذه الأبيات للرشيد كامل:

يا بن الَّذِي ورث النَّبِيَّ مُحَمَّدًا ... دُونَ الْأَقارِبِ مِن ذَوِي الْأَرْحَامِ


فَلَيْتَ شِعْرِي ما الَّذِي وَرَثَهُ الْعَبْاسُ _رَضِيَ اللهُ عَنْهُ_ مِن رَسُولِ اللهِ _صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ _ دُونَ ذَوي رحمه،وكيف يقال: إن رسول الله _صَلّى اللهُ عليهِ وسلّم _ يُورَث؟ وهذا أفضل الصّحابة وأفقههم يحتج على فاطمة_عليها السّلام_ في أمر فدك والعوالي،بقول رسول الله_صلّى الله عليه وسلّم_: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث،ما تركناه صدقة " فإن كان النّبيّ_صلّى الله عليه وسلّم_ يُورَث،فَلِمَ منعت فاطمة ما ادّعت،وإن كان لا يُورَث،فَلِمَ يَدَّعِي هذا الجاهل أن العبّاس_رضي الله عنه_ ورثه دون ذوي رحمه؟ وأصل الحديث يروون أن أبا بكر _رضي الله عنه_ أعطى عَليًّا عمامة رسول الله_صلّى الله عليه وسلّم_ وسيفه دون العباس، ثم لم يقنع مروان بهذا حتّى قال: [كامِل]:

 ما لِلنّساء مع الرّجال فَريضة ... نَزلت بذلك سورة الأنعام


فما أَدري على ماذا أحسده،أَعلى معرفته بالفرائض،أَم على حفظه للقرآن؟وما أَعلم من أَين في سورة الأَنعام ذكر شيء من الفرائض،أَو حكم من أحكام المواريث،أَو ذكر نسب أَو شيء ممّا يقارب هذا الشّأن،وليتني أعرف في أيّ موضع من القرآن ذكر أن النّساء لا فريضة لهنّ مع الرّجال؟ ✳وَمَن يقع في مِثل هذا،لا يستعظم منه خطؤُه في البيت الّذي ذَكرناه له أَوَّلًا،هذا الفساد من جهة المعنى.


وَأَمّا ترجيح اللفظ،فإن بيت ابن المعتز من محذوف المتقارب،حروفه ستّة وثلاثون حرفًا،وبيت مروان من مقطوع الكامل،حروفه اثنان وأربعون حرفًا،إلى سهولة سبكه،وجودة تركيبه، وإيجاز جمله وخفة مفرداته،وكثرة استعمال كلماته،" فاعتبروا يا أولي الأبصار "،ولم أر من أمثلة هذا الباب مثل بيت من بيتي الحماسة أغفله النّقاد وهو [طويل]:

وما شنتا خرقاء واهيتا الكلى ... سقى بهما ساق ولما تبلّلا

بأضيع من عينيك للدمع كلّما ... توسمت دارًا أو ترسمت منزلا


والبيت الأَوّل أردت،فإنّه وقع الإيغال فيه بعد ثلاث جمل: في كلّ جملة تتميم،الأولى قوله: شنتا،فإن الشنة المزادة العتيقة،وإضافتهما إلى خرقاء الّتي هي ضدّ الصناع،يريد أن خرزهما غير محكم،فهما يضيعان الماء أَبدًا،

فصار ذلك تتميمين،ثم قال بعد ذلك واهيتا الكلى،أي: كلاهما مخروقتان،ثم أوغل بقوله:

سقى بهما ساق ولما تبللا


فإن المزادة إذا ابتلت تمدد أديمها، وانتفخت سيورها،وانسد أكثر بثوقها، وإذا كانت يابسة عدمت ذلك كلّه، فكانت للماء أضيع منها وهي مبتلة، ثم في مجموع البيتين بعد ذلك تفريع حسن،وستعلم حقيقة التّفريع في بابه،فتقدر ما وقع في هذين البيتين منه قدره.

ومن أعجب إيغال وقع في الشّعر قول عبد الله بن الزّبير الأسدي[طويل]:

هما خطتا خسف نجاؤك منهما ... ركوبك حولياً من الثلج أشهبا

فإن هذا البيت وقع فيه الاستعارة، والتّورية،والتّرشيح،والإيغال.

لاحتياج المسافر للرّكوب،والتّورية في قوله حوليًا،ولو لم يرشّح بلفظه الرّكوب،لما حصلت التّورية في لفظ حولي،ورشح بمجموع الاستعارة والتّورية للإيغال،إذ لو لم يذكر الرّكوب والحولي،لما حسن أن يقول: أشهبا.

وقد وقع من الإيغال في الكتاب العزيز قوله تعالى:((أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِن اللهِ حُكْمًا))،ثُمَّ احتاج الكلام إلى فاصلة تناسب القرينة الأولى،فلمّا أتى بها أفاد مجيئها معنى زائِدًا.


 

الفرق بين التّتميم وَالإيغال من ثلاثة أوجه:

أَحدهما أن التّتميم لا يرد إلّا على كلام ناقص شيئًا ما،إِمّا حسن معنى أَو أَدب،أَو ما أَشبه ذلك،كالبيت الّذي تقدّم،فإِنّ المعنى بدون قوله: ويعطوه ناقص.

والإيغال لا يرد إلّا على معنى تامّ من كلّ وجه.


وَالثّاني اختصاص الإيغال بالمقاطع دون الحشو مراعاة لاشتقاقه؛لأَنّ الموغل في الأرض هو الّذي قد بلغ أقصاها أو قارب بلوغه،فلمّا اختصّ الإيغال بالطّرف،لَمْ يَبْقَ للتتميم إلّا الحشو.


وَالثّالث أَنّ الإيغال لا بُدّ وأَن يتضمّن معنى من معاني البديع،والتّتميم قد يتضمّن وقد لا يتضمّن،وأكثر ما يتضمّن الإيغال التّشبيه،والمبالغة، حتّى لو قيل: إنّه لا يتعدّى هذين الضّربين لكان حَقًّا،والتّتميم يتضمّن طورًا المبالغة،ويتضمّن حينًا الاحتياط،وَيأتي مرّة غير متضمّن شيئًا سوى تتميم ذلك المعنى.

تعليقات