📁 آخر الأخبار

قطوف من لغة القرآن الكريم التقديم في المتلعقات

قطوف من لغة القرآن الكريم التقديم في المتلعقات

معلوم أن ترتيب الجملة الفعلية في اللغة العربية يكون على هذا النحو: ( فعل وفاعل ومفعول )

والأصل في شبه الجملة ( الجار والمجرور والظرف ) أن يأتي بعد المتعلَق به من فعل أوشبهه......

 وقد يقتضي السياق تقديم المتعلقات ، وهذا التقديم إما أن يكون على الفعل نفسه، وإما أن يكون تقديم بعض المتعلقات على بعض، وكل واحد من الضربين لا يكون إلا لغرض.


 أما تقديم المتعلق على العامل، فإنه غالبا ما يكون للاختصاص تقول: زيدا أكرمت وأنت تعني أنك ما أكرمت إلا زيدًا، ومنه قوله -تعالى-: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي: نخصك بالعبادة، فلا نعبد غيرك ونخصك بالاستعانة فلا نستعين بسواك.


 وقوله -تعالى-: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ، قدم المفعول؛ لأنه أراد سبحانه إن كنتم تخصونه بالعبادة، فلا تتجه قلوبكم إلا إليه، ولا تنحني أصلابكم إلا في حضرته، وقوله -تعالى-: {لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُون)، أي: تحشرون إلى الله لا إلى غيره، وهذا واضح كما ترى.


وقد تأتي الجملة في سياقين مختلفين، أو في سياق واحد، ويقدم فيها المتعلق مرة ويؤخر أخرى، ويكون وراء هذا التصرف مغزى جليل.

انظر إلى قوله -تعالى-: {ِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} تأخر المتعلق على شبه الفعل في قوله: شهداء على الناس، وتقدم في قوله عليكم شهيدا، وذلك؛ لأن الغرض في الأولى إثبات شهادتهم على الأمم، وليس فيها معنى الاختصاص، وفي الثانية اختصاصهم بكون الرسول شهيدًا عليهم، وليس مجرد إثبات شهادته عليهم، وهكذا كان اختلاف ترتيب الكلمتين في الموقعين مؤديا إلى هذا الفرق الجليل....


ويتفرع على هذا الأصل، وهو دلالة تقديم المعمول على الاختصاص أنه لا يقال: ما زيدا ضربت ولا غيره؛ لأن المفعول لما قدم وسلط عليه النفي أفاد نفي الحدث عهن هذا المفعول خصوصا، وذلك يعني أن الفعل ثابت وقولك: ولا يغيره يعني نفي الفعل، وهذا تناقض كما ترى، فإذا كان مرادك أنك لم تضرب زيدا ولا غيره، فالعبارة أن تقول: ما ضربت زيدا من غيره تقديم المفعول، فإذا قدمت المفعول كان المعنى على أنك لم تضرب زيدا ولكن غيره، وكذلك لا يقال: ما زيدا ضربت ولكن أكرمت؛ لأنك ما قدمت المفعول -كما قلنا- أفاد أنك تنفي الضرب عن زيد خصوصا، وهو واقع على غيره فلما قلت: ولكن أكرمت كان رجوعا على إثبات الفعل في الأول، وإنما يقال في مثل هذا: ما ضربت زيدا ولكن أكرمته، وهكذا......


أما تقديم بعض المتعلقات على بعض، فإنه يجري على نسق دقيق من مراقبة المعاني، ومتابعة الأحوال هو متشعب النواحي متعدد الأصول......

فمن الأسس التي بنى عليها ترتيب المتعلقات أنهم يقدمون منها ما هو أوثق صلة بغرض الكلام وسياقه، انظر إلى قوله -تعالى-: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} ، وقوله في آية أخرى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} 

 قال في الأولى: نرزقكم وإياهم، فقدم ضمير المخاطبين على الأولاد،.

وقال في الثانية: نحن نرزقهم وإياكم فقدم ضمير الأولاد على المخاطبين.

وذلك؛ لأن الخطاب في الأولى للفقراء بدليل قوله: من إملاق المفيد أنهم في إملاق، فكان رزقهم أهم عندهم من رزق أولادهم؛ لأنهم في حاجة إليه الآن، فقدم الوعد برزقهم على الوعد برزق أولادهم.

 والخطاب في الثانية للأغنياء بدليل قوله: خشية إملاق فإن الخشية إنما تكون من أمر لم يقع، فكان رزق أولادهم في هذا السياق المطلوب دون رزقهم؛ لأنه حاصل فقدم الوعد برزق أولادهم على الوعد برزقهم، وهذا من غاية الدقة كما ترى.


ومن أدق ما قيل في تفسير خصائص الأسلوب، وبيان ترتيب المتعلقات ما ذكره العلوي في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} 

قال: لما صدر الآية بذكر الحب، وكان المحبوب مختلف المراتب متفاوت الدرجات اقتضت الحكمة الإلهية تقديم الأهم فالأهم من المحبوبات، فقدم النساء على البنين لما يظهر فيهن من قوة الشهوة، ونزوع الطبع، وإيثارهن على كل محبوب، وقدم البنين على الأموال لتمكنهم في النفوس، واختلاط محبتهم بالأفئدة، وهكذا القول في سائر المحبوبات، فالنساء أقعد في القلوب، والبنون أقعد في المحبة من الأموال، والذهب أكثر تمكنا من الفضة، والخيل أدخل في المحبة من الأنعام، والمواشي أدخل الحرث.

فأما قوله تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} ، فإنما قدم الأموال ههنا؛ لأنه في معرض ذكر الافتتان، ولا شك أن الافتتان بالأموال أدخل من الافتتان بالأولاد لما فيه من تعجيل اللذة، والوصول إلى المسرة، والتمكن من البسطة، والقوة بخلاف آية القناطير، فإنه إنما قدم البنين فيها لما ذكرها في معرض الشهوة، وتمكين المحبة.


[ خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني للدكتور محمد أبو موسى ] بتصرف

تعليقات