ما يصحب به السلطان
ما يصحب به السلطان
قال ابن المقفع:
ينبغي لمن خدم السلطان أن لا يغتر به إذا رضي، ولا يتغير له إذا سخط، ولا يستقل ما حمله، ولا يلحف في مسألته.
وقال أيضاً:
لا تكن صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم؛ فإن كنت حافظاً إذا أولوك، حذراً إذا قربوك، أميناً إذا ائتمنوك، ذليلاً إذا صرموك، راضياً إذا أسخطوك؛ تعلمهم وكأنك تتعلم منهم، وتؤدبهم وكأنك تتأدب بهم، وتشكرهم ولا تكلفهم الشكر، وإلا فالبعد منهم كل البعد، والحذر منهم كل الحذر.
وقال المأمون:
الملوك تتحمل كل شيء إلا ثلاثة أشياء:
القدح في الملك، وإفشاء السر، والتعرض للحرم.
وقال ابن المقفع:
إذا نزلت من السلطان بمنزلة الثقة فلا تلزم الدعاء له في كل كلمة، فإن ذلك يوجب الوحشة ويلزم الانقباض.
وقال الأصمعي:
توصلت بالملح، وأدركت بالغريب.
وقال أبو حازم الأعرج لسليمان بن عبد الملك:
إنما السلطان سوق، فما نفق عند حمل إليه.
ولما قدم معاوية من الشام - وكان عمر قد استعمله عليها - دخل على أمه هند، فقالت له:
يا بني، إنه قلما ولدت حرة مثلك، وقد استعملك هذا الرجل، فاعمل بما وافقه، أحببت ذلك أم كرهته. ثم دخل على أبيه أبي سفيان، فقال له:
يا بني، إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا عنهم، فرفعهم سبقهم وقصر بنا تأخرنا. فصرنا أتباعاً وصاروا قادة. وقد قلدوك جسيماً من أمرهم، فلا تخالفن أمرهم، فإنك تجري إلى أمد لم تبلغه ولو قد بلغته لنوفست فيه.
قال معاوية:
فعجبت من اتفاقهما في المعنى على اختلافهما في اللفظ.
وقال أبرويز لصاحب بيت المال:
إني لا أعذرك في خيانة درهم ولا أحمدك على صيانة ألف ألف:
لأنك إنما تحقن بذلك دمك وتقيم أمانتك، فإن خنت قليلاً خنت كثيراً. واحترس من خصلتين:
النقصان فيما تأخذ، والزيادة فيما تعطى. واعلم أني لم أجعلك على ذخائر الملك وعمارة المملكة والقوة على العدو، إلا وأنت عندي آمن من موضعه الذي هو فيه، وخواتمه التي هي عليه، فحقق ظني باختياري إياك أحقق ظنك في رجائك إياي:
ولا تتعوض بخير شراً، ولا برفعة ضعة، ولا بسلامة ندامة، ولا بأمانة خيانة.
ولما ولي يزيد بن معاوية سلم بن زياد خراسان، قال له:
إن أباك كفى أخاه عظيماً، وقد استكفيتك صغيراً، فلا تتكلن على عذر مني، فقد اتكلت على كفاية منك. وإياك مني قبل أن أقول إياي منك، فإن الظن إذا أخلف مني فيك أخلف منك في. وأنت في أدنى حظك فاطلب أقصاه، وقد أتعبك أبوك فلا تريحن نفسك.
وقال يزيد:
حدثني أبي:
أن عمر بن الخطاب لما قدم الشام قدم على حمار، ومعه عبد الرحمن بن عوف على حمار، فتلقاهما معاوية في موكب ثقيل، فجاوز عمر معاوية حتى اخبر به، فرجع إليه. فلما قرب منه نزل إليه، فأعرض عنه، فجعل يمشي إلى جنبه راجلاً، فقال له عبد الرحمن بن عوف:
أتعبت الرجل. فأقبل عليه عمر، فقال:
يا معاوية، أنت صاحب الموكل آنفاً مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال:
نعم يا أمير المؤمنين. قال:
ولم ذاك؟ قال:
لأنا في بلاد لا نمتنع فيها من جواسيس العدو، ولا بد لهم مما يرهنهم من هيبة السلطان، فإن أمرتني بذلك أقمت عليه، وإن نهيتني عنه انتهيت. فقال لئن كان الذي تقول حقاً فإنه رأي أريب، وإن كان باطلاً إنها خدعة أديب، وما آمرك به ولا أنهاك عنه. فقال عبد الرحمن بن عوف:
لحسن ما صدر هذا الفتى عما أوردته فيه! فقال:
لحسن مصادره و موارده جشمناه ما جشمناه.
وقال الربيع بن زياد الحارثي:
كنت عاملاً لأبي موسى الأشعري على البحرين، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمره بالقدوم عليه هو وعماله، وأن يستخلفوا من هو من ثقاتهم حتى يرجعوا. فلما قدمنا أتيت يرفأ، فقلت:
يا يرفأ، أني سائل مسترشد، أخبرني أي الهيئات أحب إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عماله؟ فأومأ إلى الخشونة. فاتخذت خفين مطارقين، ولبست جبة صوف، ولثت رأسي بعمامة دكناء. ثم دخلنا على عمر، فصفنا بين يديه وصعد فينا نظره وصوب، فلم تأخذ عينه أحداً غيري، فدعاني فقال:
من أنت؟ قلت:
الربيع بن زياد الحارثي. قال:
وما تتولى من أعمالنا؟ قلت:
البحرين. قال:
فكم ترزق؟ قلت:
خمسة دراهم في كل يوم، قال كثير؛ فما تصنع بها؟ قلت:
أتقوت منها شيئاً وأعود بباقيها على أقارب لي، فما فضل منها فعلى فقراء المسلمين. فقال:
لا بأس، ارجع إلى موضعك. فرجعت إلى موضعي من الصف. ثم صعد فينا وصوب، فلم تقع عينه إلا علي، فدعاني فقال:
كم سنوك؟ فقلت:
ثلاث وأربعون سنة. قال:
الآن حين استحكمت. ثم دعا بالطعام، وأصحابي حديثو عهد بلين العين، وقد تجوعت له، فأتى بخبز يابس وأكسار بعير. فجعل أصحابي يعافون ذلك، وجعلت آكل فأجيد الأكل فنظرت فإذا به يلحظني من بينهم. ثم سبقت مني كلمة تمنيت أن سخت في الأرض ولم ألفظ بها، فقلت:
يا أمير المؤمنين، إن الناس يحتاجون إلى صلاحك، فلو عمدت إلى طعام هو ألين من هذا؟ فزجرني وقال:
كيف قلت؟ قلت:
أقول:
لو نظرت يا أمير المؤمنين إلى قوتك من الطحين فيخبز لك قبل إرادتك إياه بيوم، ويطبخ لكم اللحم كذلك، فتؤتى بالخبر ليناً وباللحم غريضاً. فسكن عن غربه، وقال:
هذا قصدت؟ قلت:
نعم. قال:
يا ربيع، إنا لو نشاء لملأنا هذه الرحاب من صلائق وسبائك وصناب، ولكني رأيت الله تعالى نعى على قوم شهواتهم، فقال:
" أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها " ثم أمر أبا موسى أن يقرني على عملي وأن يستبدل بأصحابي.
قوله:
لثتها على رأسي؛ يقال:
رجل ألوث، إذا كان شديداً، وذلك من اللوث، ورجل ألوث، إذا كان أهوج، وهو مأخوذ من اللوثة؛ يقال:
لثت عمامة على رأسي؛ يقول:
أدرتها بعضها على بعض على غير استواء.
وقول:
صلائق، هو شيء يعمل من اللحم، فمنها ما يطبخ ومنها ما يشوى. يقال:
صلقت اللحم، إذا طبخته؛ وصلقته، إذا شويته.
وقوله:
غريضاً، يقول:
طرياً؛ يقال:
لحم غريض، تراد به:
الطراءة. قال العتابي:
إذا ما فاتني لحم غريض
***
ضربت ذراع بكري فاشتويت
وقوله:
سبائك، يريد الحوارى من الخبز، وذلك أنه يسبك فيؤخذ خالصه، والعرب تسمي الرقاق:
السبائك.
الصناب:
صباغ يتخذ من الزبيب والخردل؛ ومنها قيل للفرس:
صنابي، إذا كان ذلك اللون.
قال جرير:
تكلفني معيشة آل زيد
***
ومن لي بالمرقق والصناب
وقوله:
أكسار بعير، فالكسر والعصل والجزل:
العظم يفصل ما عليه من اللحم.
وقول:
نعى على قوم شهواتهم، أي عابهم بها ووبخهم.
ومما يصحب به السلطان:
أن لا يسلم على قادم بين يديه، وإنما استن ذلك زياد، وذلك أن عبد الله بن عباس قدم على معاوية وعنده زياد، فرحب به معاوية وألطفه وقرب مجلس، ولم يكلمه زياد شيئاً فابتدأه ابن عباس وقال:
ما حالك أبا المغيرة؟ كأنك أردت أن تحدث بيننا وبينك هجراً! قال:
لا، ولكنه لا يسلم على قادم بين يدي أمير المؤمنين؛ فقال له ابن عباس:
ما ترك الناس التحية بينهم بين يدي أمرائهم. فقال له معاوية:
كف عنه يا بن عباس فإنك لا تشاء أن تغلب إلا غلبت.
دخل أبو سلم على أبي العباس وعنده المنصور فسلم على أبي العباس؛ فقال له:
يا أبا مسلم، هذا أبو جعفر! فقال له:
يا أمير المؤمنين، هذا موضع لا يقضى فيه إلا حقك.
أبو حاتم عن العتبي قال:
قدم معاوية من الشام، وعمرو بن العاص من مصر، على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأقعدهما بين يديه، وجعل يسائلهما عن أعمالهما، إلى أن اعترض عمرو في حديث معاوية، فقال له معاوية:
أعملي تعيب وإلي تقصد؟ هلم تخبر أمير المؤمنين عن عملي وأخبره عن عملك. قال عمرو:
فعلمت أنه بعملي أبصر مني بعمله، وأن عمر لا يدع أول هذا الحديث حتى يصير إلى آخره، فأردت أن أفعل شيئاً أشغل به عمر عن ذلك، فرفعت يدي فلطمت معاوية. فقال عمر:
تالله ما رأيت رجلاً أسفه منك، قم يا معاوية فاقتص منه. قال معاوية:
إن أبي أمرني أن لا أقضي أمراً دونه. فأرسل عمر إلى أبي سفيان، فلما أتاه ألقى له وسادة، وقال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه. ثم قص عليه ما جرى بين عمرو ومعاوية. فقال:
لهذا بعثت إلي! أخوه وابنه عمه، وقد أتى غير كبير، وقد وهبت ذلك له:
وقالوا:
ينبغي لمن صحب السلطان أن لا يكتم عنه نصيحة وإن استثقلها وليكن كلامه له كلام رفق لا كلام خرق، حتى يخبره بعيبه من غير أن يواجهه بذلك، ولكن يضرب له الأمثال ويخبره بعيب غيره ليعرف عيب نفسه.
وقالوا:
من تعرض للسلطان أرداه، ومن تطامن له تخطاه فشبهوا السلطان في ذلك بالريح الشديدة التي لا تضر بما لان لها وتمايل معها من الحشيش والشجر، وما استهدف لها قصمته. قال الشاعر:
إن الرياح إذا ما عصفت قصفت
***
عيدان نبع ولا يعبأن بالرتم
وقالوا:
إذا زادك السلطان إكراما فزده إعظاما، وإذا جعلك عبد فاجعله ربا.
وقال شبيب بن شيبة:
ينبغي لمن ساير خليفة أن يكون بالموضع الذي أراد الخليفة أن يسأله عن شيء لم يحتج إلى أن يلتفت، ويكون من ناحية إذا التفت لم تستقبله الشمس.
وقرأت في كتاب للهند:
أنه أهدى لملك ثياب وحلى، فدعا بامرأتين له، وخير أحظاهما عنده بين اللباس والحلى، وكان وزيره حاضرا، فنظرت المرأة إليه كالمستشير له. فغمزها باللباس تغضينا بعينه، فلحظه الملك، فاختارت الحلية لئلا يفطن للغمزة، وصار اللباس للأخرى. فأقام الوزير أربعين سنة كاسرا عينه لئلا تقر في نفس الملك، وليظن أنها عادة وخلقة.
ما يصحب به السلطان ما يصحب به السلطان
۞۞۞۞۞۞۞۞
كتاب ا
للؤلؤة في السلطان ﴿ 3 ﴾
۞۞۞۞۞۞۞۞
ما يصحب به السلطان ما يصحب به السلطان