📁 آخر الأخبار

الوفود على عبد الملك بن مروان

 

الوفود على عبد الملك بن مروان

الوفود على عبد الملك بن مروان


وفود عبد الله بن جعفر

على عبد الملك بن مروان

قال بديح:

 وفد عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان، وكان زوج ابنته أم كلثوم من الحجاج على ألفي ألف في السر وخمسمائة في العلانية، وحملها إليه إلى العراق، فمكثت عنده ثمانية أشهر. قال بديح:

 فلما خرج عبد الله بن جعفر إلى عبد الملك بن مروان، خرجنا معه حتى دخلنا دمشق، فإنا لنحط رحالنا إذ جاءنا الوليد بن عبد الملك على بغلة وردة ومعه الناس، فقلنا:

 جاء إلى ابن جعفر ليحييه ويدعوه إلى منزله. فاستقبله ابن جعفر بالترحيب؛ فقال له:

 لكن أنت لا مرحباً بك ولا أهلاً؛ مهلاً يا بن أخي، فلست أهلاً لهذه المقالة منك؛ قال:

 بلى ولشر منها؛ قال:

 وفيم ذلك؟ قال:

 إنك عمدت إلى عقيلة نساء العرب، وسيدة بني عبد مناف، ففرشتها عبد ثقيف يتفخذها؛ قال:

 وفي هذا عتب علي يا بن أخي؟ قال:

 وما أكثر من هذا؟ قال:

 والله إن أحق الناس أن لا يلومني في هذا لأنت وأبوك، إن كان من قبلكم من الولاة ليصلون رحمي، ويعرفون حقي، وإنك وأباك منعتماني ما عندكما حتى ركبني من الدين ما والله لو أن عبداً مجدعاً حبشياً أعطاني بها ما أعطاني عبد ثقيف لزوجتها، فإنما فديت بها رقبتي من النار. قال:

 فما راجعه كلمة حتى عطف عنانه، ومضى حتى دخل على عبد الملك - وكان الوليد إذا غضب عرف ذلك في وجهه - فلما رآه عبد الملك قال:

 مالك أبا العباس؟ قال:

 إنك سلطت عبد ثقيف وملكته ورفعته، حتى تفخذ نساء عبد مناف، وأدركته الغير. فكتب عبد الملك إلى الحجاج يعزم عليه أن لا يضع كتابه من يده حتى يطلقها. فما قطع الحجاج عنها رزقاً ولا كرامة يجريها عليها حتى خرجت من الدنيا. قال:

 وما زال واصلاً لعبد الله بن جعفر حتى هلك.

قال بديح:

 فما كان يأتي علينا هلال إلا وعندنا عير مقبلة من الحجاج، عليها لطف وكسوة وميرة، حتى لحق عبد الله بن جعفر بالله.

ثم استأذن ابن جعفر على عبد الملك، فلما دخل عليه استقبله عبد الملك بالترحيب، ثم أخذ بيده فأجلسه معه على سريره، ثم سأله فألطف المسألة، حتى سأله عن مظعمه ومشربه، فلما انقضت مسألته، قال له يحيى بن الحكم:

 أمن خبيثة كان وجهك أبا جعفر؟ قال:

 وما خبيثة؟ قال:

 أرضك التي جئت منها؛ قال:

 سبحان الله! رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميها طيبة وتسميها خبيثة! لقد اختلفتما في الدنيا وأظنكما في الآخرة مختلفين. فلما خرج من عنده هيأ له ابن جعفر هدايا وألطافاً. فقلت لبديح:

 ما قيمة ذلك؟ قال:

 قيمته مائة ألف، من وصفاء ووصائف وكسوة وحرير ولطف من لطف الحجاز. قال:

 فبعثني بها، فدخلت عليه وليس عنده أحد، فجعلت أعرض عليه شيئاً شيئاً. قال:

 فما رأيت مثل إعظامه لكل ما عرضت عليه من ذلك، وجعل يقول كلما أريته شيئاً:

 عافى الله أبا جعفر، ما رأيت كاليوم، وما كنا نريد أن يتكلف لنا شيئاً من هذا، وإن كنا لمتذممين محتشمين. قال:

 فخرجت من عنده، وإذن لأصحابه، فوالله لبينا أنا أحدثه عن تعجب عبد الملك وإعظامه لما أهدى إليه، إذا بفارس قد أقبل علينا، فقال:

 أبا جعفر، إن أمير المؤمنين يقرأ السلام عليك، ويقول لك:

 جمعت لنا وخش رقيق الحجاز أباقهم، وحبست عنا فلانة، فابعث بها إلينا - وذلك أنه حين دخل عليه أصحابه جعل يحدثهم عن هدايا ابن جعفر ويعظمها عندهم؛ فقال له يحيى بن الحكم:

 وماذا أهدى إليك ابن جعفر؟ جمع لك وخش رقيق الحجاز وأباقهم وحبس عنك فلانة؛ قال:

 ويلك! وما فلانة هذه؟ قال:

 ما لم يسمع والله أحد بمثلها قط جمالاً وكمالاً وخلقاً وأدباً، لو أراد كرامتك بعث بها إليك؛ قال:

 وأين تراها، وأين تكون؟ قال:

 هي والله معه، وهي نفسه التي بين جنبيه - فلما قال الرسول ما قال، وكان ابن جعفر في أذنه بعض الوقر إذا سمع ما يكره تصام، فأقبل علي فقال:

 ما يقول بديح؟ قال:

 قلت:

 فإن أمير المؤمنين يقرأ السلام ويقول:

 إنه جاءني بريد من ثغر كذا يقول:

 إن الله نصر المسلمين وأعزهم؛ قال:

 اقرأ أمير المؤمنين السلام، وقل له:

 أعز الله نصرك، وكبت عدوك؛ فقال الرسول:

 يا أبا جعفر، إني لست أقول هذا، وأعاد مقالته الأولى. فسألني، فصرفته إلى وجه آخر؛ فأقبل علي الرسول، فقال:

 يا ماص أبرسل أمير المؤمنين تهكم؟ وعن أمير المؤمنين تجيب هذا الجواب؟ قال:

 والله لأطلن دمك؛ فانصرف. وأقبل علي ابن جعفر فقال:

 من ترى صاحبنا؟ قال:

 صاحبك بالأمس؛ قال:

 أظنه، فما الرأي عندك؟ قلت:

 يا أبا جعفر، قد تكلفت له ما تكلفت فإن منعتها إياه جعلتها سبباً لمنعك، ولو طلب أمير المؤمنين إحدى بناتك ما كنت أرى أن تمنعها إياه، قال:

 ادعها لي. فلما أقبلت رحب بها، ثم أجلسها إلى جنبه، ثم قال:

 أما والله ما كنت أظن أن يفرق بيني وبينك إلا الموت؛ قالت:

 وما ذاك؟ قال:

 إنه حدث أمر وليس والله كائناً فيه إلا ما أحببت، جاء الدهر فيه بما جاء؛ قالت:

 وما هو؟ قال:

 إن أمير المؤمنين بعث يطلبك، فإن تهوين فذاك، وإلا والله لا يكون أبداً؛ قالت:

 ما شيء لك فيه هوى ولا أظن فيه فرجاً عنك إلا فديته بنفسي، وأرسلت عينيها بالبكاء؛ فقال لها:

 أما إذا فعلت فلا ترين مكروهاً، فمسحت عينيها، وأشار إلي فقال:

 ويحك يا بديح! استحثها قبل أن تتقدم إلي من القوم بادرة. قال:

 ودعا بأربع وصائف ودعا من صاحب نفقته بخمسمائة دينار، ودعا مولاة له كانت تلي طيبه، فدحست لها ربعة عظيمة مملوءة طيباً، ثم قال:

 عجلها ويلك! فخرجت أسوقها حتى انتهيت إلى الباب، وإذا الفارس قد بلغ عني، فما تركني الحجاب أن تمس رجلاي الأرض حتى أدخلت على عبد الملك وهو يتلظى؛ فقال لي:

 يا ماص! وكذا أنت المجيب عن أمير المؤمنين والمتهكم برسله؟ قلت:

 يا أمير المؤمنين، ائذن لي أتكلم؛ قال:

 وما تقول يا كذا وكذا؟ قلت:

 ائذن لي يجعلني الله فداك أتكلم؛ قال:

 تكلم؛ قلت:

 يا أمير المؤمنين، أنا أصغر شأناً، وأقل خطراً من أن يبلغ كلامي من أمير المؤمنين ما أرى، وهل أنا إلا عبد من عبيد أمير المؤمنين، نعم قد قلت ما بلغك، وقد يعلم أمير المؤمنين أنا إنما نعيش في كنف هذا الشيخ، وأن الله لم يزل إليه محسناً، فجاءه من قبلك شيء ما أتاه قط مثله، إنما طلبت نفسه التي بين جنبيه، فأجبت بما بلغك لأسهل الأمر عليه، ثم سألني فأخبرته، واستشارني فأشرت عليه، وها هي ذه قد جئتك بها؛ قال:

 أدخلها ويلك! قال:



فأدخلتها عليه، وعنده مسلمة ابنه غلام ما رأيت مثله ولا أجمل منه حين اخضر شاربه، فلما جلست وكلها أعجب بكلامها، فقال:

 لله أبوك! أمسكك لنفسي أحب إليك، أم أهبك لهذا الغلام؟ فإنه ابن أمير المؤمنين؛ قالت:

 يا أمير المؤمنين، لست لك بحقيقة، وعسى أن يكون هذا الغلام لي وجهاً؛ قال:

 فقام من مكانه ما راجعها؛ فدخل وأقبل عليها مسلمة، يالكاع، أعلى أمير المؤمنين تختارين؟ قالت:

 يا عدو نفسه، إنما تلومني أن اخترتك! لعمر الله، لقد قال:

 رأي من اختارتك. قال:

 فضيقت والله مجلسه؛ واطلع علينا عبد الملك، قد ادهن بدهن وارى الشيب، وعليه حلة تتلألأ كأنها الذهب، بيده مخصرة يخطر بها، فجلس مجلسه على سريره، ثم قال:

 إيها! لله أبوك! أمسكك لنفسي أحب لك، أم أهبك لهذا الغلام؟ قالت:

 ومن أنت أصلحك الله؟ قال لها الخصي:

 هذا أمير المؤمنين؛ قالت:

 لست مختارة على أمير المؤمنين أحداً؛ قال:

 فأين قولك آنفاً؟ قالت:

 رأيت شيخاً كبيراً، وأرى أمير المؤمنين أشب الناس وأجملهم، ولست مختارة عليه أحداً، قال:

 دونكها يا مسلمة.دخلتها عليه، وعنده مسلمة ابنه غلام ما رأيت مثله ولا أجمل منه حين اخضر شاربه، فلما جلست وكلها أعجب بكلامها، فقال:

 لله أبوك! أمسكك لنفسي أحب إليك، أم أهبك لهذا الغلام؟ فإنه ابن أمير المؤمنين؛ قالت:

 يا أمير المؤمنين، لست لك بحقيقة، وعسى أن يكون هذا الغلام لي وجهاً؛ قال:

 فقام من مكانه ما راجعها؛ فدخل وأقبل عليها مسلمة، يالكاع، أعلى أمير المؤمنين تختارين؟ قالت:

 يا عدو نفسه، إنما تلومني أن اخترتك! لعمر الله، لقد قال:

 رأي من اختارتك. قال:

 فضيقت والله مجلسه؛ واطلع علينا عبد الملك، قد ادهن بدهن وارى الشيب، وعليه حلة تتلألأ كأنها الذهب، بيده مخصرة يخطر بها، فجلس مجلسه على سريره، ثم قال:

 إيها! لله أبوك! أمسكك لنفسي أحب لك، أم أهبك لهذا الغلام؟ قالت:

 ومن أنت أصلحك الله؟ قال لها الخصي:

 هذا أمير المؤمنين؛ قالت:

 لست مختارة على أمير المؤمنين أحداً؛ قال:

 فأين قولك آنفاً؟ قالت:

 رأيت شيخاً كبيراً، وأرى أمير المؤمنين أشب الناس وأجملهم، ولست مختارة عليه أحداً، قال:

 دونكها يا مسلمة.

قال بديح:

 فنشرت عليه الكسوة والدنانير التي معي، وأريته الجواري والطيب؛ قال:

 عافى الله ابن جعفر، أخشي أن لا يكون لها عندنا نفقة وطيب وكسوة؟ فقلت:

 بلى، ولكن أحب أن يكون معها ما تكتفي به حتى تستأنس. قال:

 فقبضها مسلمة. فلم تلبث عنده إلا يسيراً حتى هلكت. قال بديح:

 فوالله الذي ذهب بنفس مسلمة، ما جلست معه مجلساً، ولا وقفت موقفاً أنازعه فيه الحديث إلا قال:

 أبغني مثل فلانة، فأقول:

 أبغني مثل ابن جعفر.

قال:

 فقلت لبديح:

 ويلك! فما أجازه به؟ قال:

 قال:

 حين دفع إليه حاجته ودينه، لأجيزنك جائزة، لو نشر لي مروان من قبره ما زدته عليها، فأمر له بمائة ألف، وأيم الله إني لا أحسبه أنفق في هديته ومسيره ذلك وجاريته التي كانت عدل نفسه مائتي ألف.


وفود الشعبي

على عبد الملك بن مروان

كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف:

 أن ابعث رجلاً يصلح للدين وللدنيا، أتخذه سميراً وجليساً وخلياً؛ فقال الحجاج:

 ما له إلا عامر الشعبي، وبعث به إليه. فلما دخل عليه وجده قد كبامهتماً، فقال:

 ما بال أمير المؤمنين؟ قال:

 ذكرت قول زهير:


كأني وقد جاوزت تسعين حجة

***

 خلعت بها عني عذار لجامي

رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى

***

 فكيف بمن يرمى وليس برامي

فلو أنني أرمى بنبل رأيتها

***

 ولكنني أرمى بغير سهام

على الراحتين تارة وعلى العصا

***

 أنوء ثلاثاً بعدهن قيامي

قال له الشعبي:

 ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كما قال لبيد بن ربيعة وقد بلغ سبعين حجة:


كأني وقد جاوزت سبعين حجة

***

 خلصت بها عن منكبي ردائياً

ولما بلغ سبعاً وسبعين سنة قال:


بانت تشكي إلى النفس موهنة

***

 وقد حملتك سبعاً بعد سبعيناً

فإن تزادي ثلاثاً تبلغي أملاً

***

 وفي الثلاث وفاء للثمانيناً

ولما بلغ تسعين سنة قال:


وقد سئمت من الحياة وطولها

***

 وسؤال هذا الناس كيف لبيد

ولما بلغ عشراً ومائة قال:


أليس ورائي إن تراخت منيتي

***

 لزوم العصا تحنى عليها الأصابع

أخبر أخبار القرون التي خلت

***

 أنوء كأني كلما قمت راكع

ولما بلغ ثلاثين ومائة وحضرته الوفاة قال:


تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما

***

 وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر

فقوما فقولا بالذي تعلمانه

***

 ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا شعر

وقولا هو المرء الذي لا صديقه

***

 أضاع ولا خان الخليل ولا غدر

إلى سنة ثم السلام عليكما

***

 ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر

قال الشعبي:

 فلقد رأيت السرور في وجه عبد الملك طمعاً أن يعيشها.


وفود الحجاج بإبراهيم بن محمد

بن طلحة على عبد الملك بن مروان

عمران بن عبد العزيز قال:


لما ولي الحجاج بن يوسف الحرمين بعد قتله ابن الزبير استخلص إبراهيم بن محمد بن طلحة فقربه وعظم منزلته، فلم تزل حاله عنده حتى خرج إلى عبد الملك بن مروان، فخرج معه معادلاً، لا يقصر له في بر ولا إعظام، حتى حضر به عبد الملك، فلما دخل عليه لم يبدأ بشيء بعد السلام إلا أن قال له:

 قدمت عليك أمير المؤمنين برجل الحجاز، لم أدع له بها نظيراً في الفضل والأدب والمروءة وحسن المذهب، مع قرابة الرحم ووجوب الحق وعظم قد الأبوة وما بلوت منه في الطاعة والنصيحة وحسن الموازرة، وهو إبراهيم بن محمد بن طلحة، وقد أحضرته بابك ليسهل عليه إذنك، وتعرف له ما عرفتك؛ فقال:

 أذكرتنا رحماً قريبة وحقاً واجباً، يا غلام، ائذن لإبراهيم بن محمد بن طلحة، فلما دخل عليه أدناه عبد الملك حتى أجلسه على فراشه، ثم قال له:

 يا بن طلحة، إن أبا محمد ذكرنا ما لم نزل نعرفك به في الفضل والأدب والمروءة وحسن المذهب، مع قرابة الرحم ووجوب الحق وعظم قدر الأبوة، وما بلاه منك في الطاعة والنصيحة وحسن الوازرة، فلا تدعن حاجة عن خاصة نفسك وعامتك إلا ذكرتها؛ فقال:

 يا أمير المؤمنين، إن أول الحوائج وأحق ما قدم بين يدي الأمور ما كان لله فيه رضا، ولحق نبيه صلى الله عليه وسلم أداء، ولك فيه ولجماعة المسلمين نصيحة، وعندي نصيحة لا أجد بداً من ذكرها، ولا أقدر على ذلك إلا وأنا خال، فأخلني يا أمير المؤمنين ترد عليك نصيحتي؛ قال:

 دون أبي محمد؟ قال:

 نعم، دون أبي محمد. قال عبد الملك للحجاج:

 قم. فلما خطرف الستر أقبل علي، فقال:

 يا بن طلحة، قل نصيحتك؛ فقال:

 تالله يا أمير المؤمنين، لقد عمدت إلى الحجاج في تغطرسه، وتعجرفه، وبعده من الحق، وقربه من الباطل، فوليته الحرمين، وهما ما هما وبهما ما بهما من المهاجرين والأنصار والموالي الأخيار يطؤهم بطغام أهل الشام ورعاع لا روية لهم في إقامة حق ولا في إزاحة باطل، ويسومهم الخسف ويحكم فيهم بغير السنة، بعد الذي كان من سفك دمائهم، وما انتهك من حرمهم، ثم ظننت أن ذلك فيما بينك وبين الله زاهق، وفيما بينك وبين نبيك غداً إذا جاثاك للخصومة بين يدي الله في أمته، أما والله لا تنجو هنالك إلا بحجة، فاربع على نفسك أودع. فقال له عبد الملك:

 كذبت ومنت وظن بك الحجاج ما لم يجده فيك، وقد يظن الخير بغير أهله، قم فأنت الكاذب المائن. قال:

 فقمت وما أعرف طريقاً، فلما خطرف الستر لحقني لاحق، فقال:

 احبسوا هذا، وقال للحجاج:

 ادخل، فدخل، فمكث ملياً من النهار لا أشك أنهما في أمري، ثم خرج الآذن، فقال:

 ادخل يا بن طلحة، فلما كشف لي الستر لقيني الحجاج، وهو خارج وأنا داخل، فاعتنقني وقبل ما بين عيني، وقال:

 أما إذا جزى الله المتواخيين خيراً تواصلهم فجزاك الله عني أفضل الجزاء، فوالله لئن سلمت لك لأرفعن ناظرك، ولأعلين كعبك، ولأتبعن الرجال غبار قدميك؛ قال:

 قلت:

 يهزأ بي وحق الكعبة. فلما وصلت إلى عبد الملك أدناني حتى أدناني عن مجلسي الأول، ثم قال:

 يا بن طلحة، لعل أحداً شاركك في نصيحتك هذه؟ قلت:

 والله يا أمير المؤمنين، ما أعلم أحداً أنصع عندي يداً ولا أعظم معروفاً من الحجاج، ولو كنت محابياً أحداً لغرض دنيا لحابيته، ولكني آثرت الله ورسوله وآثرتك والمؤمنين عليه؛ قال:

 قد علمت أنك لم ترد الدنيا، ولو أردتها لكانت لك في الحجاج، ولكن أردت الله والدار الآخرة، وقد عزلته عن الحرمين لما كرهت من ولايته عليهما، وأعلمته أنك استنزلتني له عنهما استقلالاً لهما، ووليته العراقين، وما هنالك من الأمور التي لا يدحضها إلا مثله، وأعلمته أنك استدعيتني إلى ولايته عليهما استزادة له، لألزمه بذلك من حقك ما يؤدي إليك عني أجر نصيحتك، فاخرج معه فإنك غير ذام لصحبته. فخرجت مع الحجاج وأكرمني أضعاف إكرامه.

الوفود على عبد الملك بن مروان


۞۞۞۞۞۞۞۞

 كتاب الجمانة في الوفود ﴿ 17 ﴾ 

۞۞۞۞۞۞۞۞

الوفود على عبد الملك بن مروان


تعليقات