📁 آخر الأخبار

لطيف الاستمناح لطيف الاستمناح

 

لطيف الاستمناح

لطيف الاستمناح


قال الحكماء:

 لطيف الاستمناح سبب النجاح، والأنفس ربما انطلقت وانشرحت بلطيف السؤال، وانقبضت وامتنعت بجفاء السائل؛ كما قال الشاعر:


وجفوتني فقطعت عنك فوائدي

***

 كالدر يقطعه جفاء الحالب

وقال العتابي:

 إن طلب حاجة إلى ذي سلطان فأجمل في الطلب إليه، وإياك والإلحاح علي، فإن إلحاحك يكلم عرضك، ويريق ماء وجهك، فلا تأخذ منه عوضاً لما يأخذ منك؛ ولعل الإلحاح يجمع عليك إخلاق الوجه، وحرمان النجاح؛ فإنه ربما مل المطلوب إليه حتى يستخف بالطالب.

وقال الحسن بن هانئ:


تأن مواعيد الكرام فربما

***

 حملت من الإلحاح سمحاً على بخل

وقال آخر:


إن كنت طالب حاجة فتجمل

***

 فيها بأحسن ما طلب وأجمل

إن الكريم أخا المروءة والنهى

***

 من ليس في حاجاته بمثقل

وقال مروان بن أبي حفصة:

 لقيت يزيد بن مزيد وهو خارج من عند المهدي، فأخذ بعنان دابته وقلت له:

 إني قلت فيك ثلاثة أبيات أريد لكل بيت منها مائة ألف. قال:

 هات، لله أبوك! فأنشأت أقول:


يا أكرم الناس من عجم ومن عرب

***

 بعد الخليفة يا ضرغامة العرب

أفنيت مالك تعطيه وتنهبه

***

 يا آفة الفضة البيضاء والذهب

إن السنان وحد السيف لو نطقا

***

 لا خبراً عنك في الهيجاء بالعجب

فأمر لي بها.

المدائني قال:

 قدم قوم من بني أمية على عبد الملك بن مروان، فقالوا:

 يا أمير المؤمنين، نحن ممن تعرف، وحقنا لا ينكر، وجئناك من بعيد، ونمت بقريب، وهما تعطنا فنحن أهله.

دخل عبد الملك بن صالح على الرشيد فقال:

 أسألك بالقرابة والخاصة، أم بالخلافة والعامة؟ قال:

 بل بالقرابة والخاصة. قال:

 يداك يا أمير المؤمنين بالعطية أطلق من لساني بالمسألة. فأعطاه وأجزل له.

ودخل أبو الريان على عبد الملك بن مروان، وكان عنده أثيراً، فرآه خائراً، فقال:

 يا أبا الريان، مالك خائراً؟ قال:

 أشكو إليك الشرف يا أمير المؤمنين. قال:

 وكيف ذلك؟ قال:

 نسأل ما لا نقدر عليه ونعتذر فلا نعذر. قال عبد الملك:

 ما أحسن ما استمنحت، واعتررت يا أبا الريان! أعطوه كذا وكذا.

العتابي قال:

 كتب الشعبي إلى الحجاج يسأله حاجة، فاعتل عليه. فكتب إليه الشعبي:

 والله لا عذرتك وأنت والي العراقين، وابن عظيم القريتين، فقضى حاجته.

وكان جد الحجاج لأمه عروة بن مسعود الثقفي.

العتبي قال:

 قدم عبد العزيز بن زرارة الكلابي على أمير المؤمنين معاوية، فقال:

 إني لم أزل أهز ذئاب الرحال إليك، فلم أجد معولاً إلا عليك؛ امتطى الليل بعد النهار، وأسم المجاهل بالآثار؛ يقودني إليك أمل، وتسوقني بلوى، المجتهد يعذر، وإذا بلغتك فقطني. فقال:

 احطط عن راحلتك رحلها.

ودخل كريز بن زفر بن الحارث على يزيد بن المهلب فقال:

 أصلح الله الأمير، أنت أعظم من أن يستعان بك ويستعان عليك، ولست تفعل من الخير شيئاً إلا وهو يصغر عنك وأنت أكبر منه، وليس العجب أن تفعل، ولكن العجب أن لا تفعل قال:

 سل حاجتك. قال:

 قد حملت عن عشيرتي عشر ديات. قال:

 قد أمرت لك بها وشفعتها بمثلها.

العتبي عن أبيه قال:

 أتى رجل إلى حاتم الطائي فقال:

 إنها وقعت بيني وبين قومي ديات فاحتملتها في مالي وأملي، فعدمت مالي وكنت أملي، فإن تحملها عني فرب هم فرجته، وغم كفيته، ودين قضيته؛ وإن حال دون ذلك حائل لم أذم يومك، ولم أيأس من غدك. فحملها عنه.

المدائني قال:


سأل رجل خالداً القسري حاجة، فاعتل عليه. فقال له:

 لقد سألت الأمير من غير حاجة. قال وما دعاك إلى ذلك؟ قال رأيتك تحب من لك عنده حسن بلاء، فأردت أن أتعلق منك بحبل مودة. فوصله وحباه وأدنى مكانه.

والأصمعي قال:

 دخل أبو بكير الهجري على المنصور، فقال:

 يا أمير المؤمنين، نغض فمي، وأنتم أهل البيت بركة، فلو أذنت لي فقبلت رأسك لعل الله يشدد لي منه. قال:

 اختر منها ومن الجائزة. فقال:

 يا أمير المؤمنين أهون علي من ذهاب درهم من الجائزة ألا تبقى حاكة في فمي. فضحك المنصور وأمر له بجائزة.

وذكروا أن جاراً لأبي دلف ببغداد لزمه كبير دين فادح حتى احتاج إلى بيع داره. فساوموه بها، فسألهم ألف دينار، فقالوا له:

 إن دارك تساوي خمسمائة دينار. قال:

 وجواري من أبي دلف بألف وخمسمائة دينار. فبلغ أبا دلف، فأمر بقضاء دينه، وقال له لا تبع دارك ولا تنتقل من جوارنا.

ووقفت امرأة على قيس بن سعد بن عبادة، فقالت:

 أشكو إليك قلة الجرذان، قال:

 ما أحسن هذه الكناية! املئوا لها بيتاً خبزاً ولحماً وسمناً وتمراً.

إبراهيم بن أحمد عن الشيباني قال:

 كان أبو جعفر المنصور أيام بني أمية إذا دخل البصرة دخل مستتراً، فكان يجلس في حلقة أزهر السمان المحدث. فلما أفضت الخلافة إليه، قدم عليه أزهر، فرحب به وقربه، وقال له ما حاجتك يا أزهر؟ قال:

 داري متهدمة، وعلي أربعة آلاف درهم، وأريد أن يبني محمد ابني بعياله، فوصله باثني عشر ألفاً، وقال. قد قضينا حاجتك يا أزهر، فلا تأتنا طالباً:

 فأخذها وارتحل. فلما كان بعد سنة أتاه. فلما رآه أبو جعفر، قال:

 ما جاء بك يا أزهر؟ قال جئتك مسلماً. قال:

 إنه يقع في خلد أمير المؤمنين أنك جئت طالباً. قال:

 ما جئت إلا مسلماً. قال:

 قد أمرنا لك باثني عشر ألفاً، واذهب فلا تأتنا طالباً ولا مسلماً. فأخذها ومضى. فلما كان بعد سنة أتاه، فقال:

 ما جاء بك يا أزهر؟ قال:

 أتيت عائداً. قال:

 إنه يقع في خلد أمير المؤمنين أنك جئت طالباً. قال:

 ما جئت إلا عائداً قال أمرنا لك باثني عشر ألفاً فاذهب ولا تأتنا لا طالباً ولا مسلماً ولا عائداً، فأخذها وانصرف. فلما مضت السنة أقبل، فقال له:

 ما جاء بك يا أزهر؟ قال:

 دعاء كنت أسمعك تدعو به يا أمير المؤمنين، جئت لأكتبه. فضحك أبو جعفر وقال:

 إنه دعاء غير مستجاب، وذلك أني قد دعوت الله تعالى به أن لا أراك، فلم يستجب لي، وقد أمرنا لك باثني عشر ألفاً، فاذهب وتعال متى شئت، فقد أعيتني فيك الحيلة.

أقبل أعرابي إلى داود بن المهلب فقال له:

 إني مدحتك فاستمع. قال:

 على رسلك، ثم دخل بيته وقلد سيفه وخرج، فقال:

 فإن أحسنت حكمناك، وإن أسأت قتلناك. فأنشأ يقول:


أمنت بداود وجود يمينه

***

 من الحدث المخشي والبؤس والفقر

فأصبحت لا أخشى بداود نبوة

***

 من الحدثان إذ شددت به أزري

له حكم لقمان وصورة يوسف

***

 وملك سليمان وعدل أبي بكر

فتى تفرق الأموال من جود كفه

***

 كما يفرق الشيطان من ليلة القدر

فقال:

 قد حكمناك، فإن شئت على قدرك وإن شئت على قدري. قال:

 بل على قدري، فأعطاه خمسين ألفاً. فقال له جلساؤه:

 هلا احتكمت على قدر الأمير! قال:

 لم يك في ماله ما يفي بقدره. قال له داود:

 أنت في هذه أشعر منك في شعرك، وأمر بمثل ما أعطاه.

الأصمعي قال:

 كنت عند الرشيد إذ دخل عليه إسحاق بن إبراهيم الموصلي فأنشده:


وآمرة بالبخل قلت لها اقصري

***

 فليس إلى ما تأمرين سبيل

فعالى فعال المكثرين تجملاً

***

 ومالي كما قد تعلمين قليل

فكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى

***

 ورأي أمير المؤمنين جميل

فقال له الرشيد:

 لله در أبيات تأتينا بها! ما أحسن أصولها، وأبين فصولها، وأقل فضولها! يا غلام، أعطه عشرين ألفاً. قال:

 والله لا أخذت منها درهماً واحداً. قال:

 ولم؟ قال:

 لأن كلامك والله يا أمير المؤمنين خير من شعري. قال:

 أعطوه أربعين ألفاً. قال الأصمعي:

 فعلمت والله أنه أصيد لدراهم الملوك مني.

العتبي عن أبيه قال:



قدم زيد بن منية من البصرة على معاوية - وهو أخو يعلى بن منية صاحب جمل عائشة رضي الله عنها ومتولي تلك الحروب ورأس أهل البصرة، وكانت ابنة يعلى عند عتيبة بن أبي سفيان - فلما دخل على معاوية شكا دينه، فقال:

 يا كعب، أعطه ثلاثين ألفاً. فلما ولى قال:

 وليوم الجمل ثلاثين ألفاً أخرى. ثم قال له:

 الحق بصهرك - يعني عتبة - فقدم عليه مصر، فقال:

 إني سرت إليك شهرين، أخوض فيهما المتالف، ألبس أردية الليل مرة، وأخوض في لجج السراب أخرى، موقراً من حسن الظن بك، وهارباً من دهر قطم، ومن دين لزم. بعد غنى جدعنا به أنوف الحاسدين. فقال عتبة:

 إن الدهر أعاركم غنى، وخلطكم بنا، ثم استرد ما أمكنه أخذه، وقد أبقى لكم منا ما لا ضيعة معه، وأنا رافع يدي ويدك بيد الله. فأعطاه ستين ألفاً كما أعطاه معاوية.

إبراهيم الشيباني قال:

 قال عبد الله بن علي بن سويد بن منجوف:

 أعدم أبي إعدامة شديدة بالبصرة وأنفض، فخرج إلى خراسان، فلم يصب بها طائلاً، فبينا هو يشكو تعزر الأشياء عليه، إذ عدا غلامه على كسوته وبلغته فذهب بهما. فأتى أبا ساسان حضين بن المنذر الرقاشي فشكا إليه حاله. فقال له:

 والله يا بن أخي ما عمك ممن يحمل محاملك، ولكن لعلي أحتال لك:

 فدعا بكسوة حسنة فألبسني إياها، ثم قال. امض بنا. فأتى باب والي خراسان فدخل وتركني بالباب، فلم ألبث أن خرج الحاجب فقال:

 أين علي بن سويد؟ فدخلت إلى الوالي، فإذا حضين على فراش جانبه. فسلمت على الوالي، فرد علي، ثم أقبل عليه حضين فقال:

 أصلح الله الأمير، هذا علي بن سويد بن منجوف، سيد فتيان بكر بن وائل، وابن سيد كهولها، وأكثر الناس مالاً حاضراً بالبصرة، وفي كل موضع ملكت به بكر بن وائل مالاً، وقد تحمل بي إلى الأمير حاجة. قال:

 هي مقضية. قال:

 يسألك أن تمد يدك في ماله ومراكبه وسلاحه إلى ما أحببت. قال:

 لا والله لا أفعل ذلك به، نحب أولى بزيادته. قال:

 فقد أعفيناك من هذه إذ كرهتها، فهو يسألك أن تحمله حوائجك بالبصرة. قال:

 إن كانت حاجة فهو فيها ثقة، ولكن أسألك أن تكلمه في قبول معونة منا، فإنا نحب أن يرى على مثله من أثرنا. فأقبل علي أبو ساسان فقال:

 يا أبا الحسن، عزمت عليك أن لا ترد على عمك شيئاً أكرمك به. فسكت. فدعا لي بمال ودواب وكساو ورقيق. فلما خرجت قلت:

 أبا ساسان، لقد أوقفتني على خطة ما وقفت على مثلها قط. قال:

 اذهب إليك يا بن أخي، فعمك أعلم بالناس منك. إن الناس إن علموا لك غرارة من مال حشوا لك أخرى، وإن يعلموك فقيراً تعدوا عليك مع فقرك.

إبراهيم الشيباني قال:

 ولدت لأبي دلامة ابنة ليلاً، فأوقد السراج وجعل يخيط خريطة من شقق. فلما اصبح طواها بين أصابعه وغدا بها إلى المهدي فاستأذن عليه، وكان لا يحجب عنه. فأنشده:


لو كان يقعد فوق الشمس من كرم

***

 قوم لقيل اقعدوا يا آل عباس

ثم ارتقوا من شعاع الشمس في درج

***

 إلى السماء فأنتم أكرم الناس

قال له المهدي:

 أحسنت والله أبا دلامة! فما الذي غدا بك إلينا؟ قال:

 ولدت لي جارية يا أمير المؤمنين. قال:

 فهل قلت فهيا شعراً؟ قال:

 نعم، قلت:


فما ولدتك مريم أم عيسى

***

 ولم يكفلك لقمان الحكيم

ولكن قد تضمك أم سوء

***

 إلى لباتها وأب لئيم

قال:

 فضحك المهدي. وقال:

 فما تريد أن أعينك به في تربيتها أبا دلامة؟ قال:

 تملأ هذه يا أمير المؤمنين، وأشار إليه بالخريطة بين إصبعيه. فقال المهدي:

 وما عسى أن تحمل هذه؟ قال:

 من لم يقنع بالقليل لم يقنع بالكثير. فأمر أن تملأ مالاً. فلما نشرت أخذت عليهم صحن الدار، فدخل فيها أربعة آلاف درهم.

وكان المهدي قد كسا أبا دلامة ساجاً. فأخذ به وهو سكران، فأتي به إلى المهدي. فأمر بتمزيق الساج عليه، وأن يحبس في بيت الدجاج، فلما كان في بعض الليل وصحا أبو دلامة من سكره ورأى نفسه بين الدجاج، صاح:

 يا صاحب البيت.

فاستجاب له السجان؛ فقال:

 مالك يا عدو الله؟ قال له:

 ويلك! من أدخلني مع الدجاج؟ قال:

 أعمالك الخبيثة، أتى بك أمير المؤمنين وأنت سكران فأمر بتمزيق ساجك وحبسك مع الدجاج. قال له:

 ويلك! أو تقدر على أن توقد سراجاً، وتجيئني بدواة وورق ولك سلبي هذا. فأتاه بدواة وورق:

 فكتب أبو دلامة إلى المهدي:



أمن صهباء صافية المزاج

***

 كأن شعاعها لهب السراج

تهش لها النفوس وتشتهيها

***

 إذا برزت ترقرق في الزجاج

وقد طبخت بنار الله حتى

***

 لقد صارت من النطف النضاج

أمير المؤمنين فدتك نفسي

***

 علام حبستني وخرقت ساجي

أقاد إلى السجون بغير ذنب

***

 كأني بعض عمال الخراج

ولو معهم حبست لهان وجدي

***

 ولكني حبست مع الدجاج

دجاجات يطيف بهن ديك

***

 يناجي بالصياح إذا يناجي

وقد كانت تخبرني ذنوبي

***

 بأني من عذابك غير ناجي

على أني وإن لاقيت شراً

***

 لخيرك بعد ذاك الشر راجي

ثم قال:

 أوصلها إلى أمير المؤمنين. فأوصلها إليه السجان. فلما قرأها، أمر بإطلاقه وأدخله عليه، فقال:

 أين بت الليلة أبا دلامة؟ قال:

 مع الدجاج يا أمير المؤمنين. قال:

 فما كنت تصنع؟ قال:

 كنت أقاقي معهن حتى أصبحت. فضحك المهدي وأمر بصلة جزيلة، وخلع عليه كسوة شريفة.

وكتب أبو دلامة إلى عيسى موسى، وهو والي الكوفة رقعة فيها هذه الأبيات:


إذا جئت الأمير فقل سلام

***

 عليك ورحمة الله الرحيم

فأما بعد ذاك فلي غريم

***

 من الأنصار قبح من غريم

لزوم ما علمت لباب داري

***

 لزوم الكلب أصحاب الرقيم

له مائة علي ونصف أخرى

***

 ونصف النصف في صك قديم

دراهم ما انتفعت بها ولكن

***

 وصلت بها شيوخ بني تميم

أتوني بالعشيرة يسألوني

***

 ولم أك في العشيرة باللئيم

قال:

 فبعث إليه بمائة ألف درهم.

ولقى أبو دلامة أبا دلف في مصاد، وهو والي العراق، فأخذ بعنان فرسه وأنشد:


إن حلفت لئن رأيتك سالماً

***

 بقرى العراق وأنت ذو وفر

لتصلين على النبي محمد

***

 ولتملأن دراهماً حجري

فقال:

 أما الصلاة على النبي، فنعم، صلى الله عليه وسلم؛ وأما الدراهم، فلما نرجع إن شاء الله تعالى. قال له:

 جعلت فداك، لا تفرق بينهما. فاستلفها له، وصبت في حجره حتى أثقلته.

ودخل أبو دلامة على المهدي، فأنشده أبياتاً أعجب بها، فقال له:

 سلني أبا دلامة واحتكم وأفرط ما شئت. فقال:

 يا أمير المؤمنين، كلب اصطاد به، قال:

 قد أمرنا لك بكلب؛ وهاهنا بلغت همتك، وعلى هاهنا انتهت أمنيتك؟ قال لا تعجل علي يا أمير المؤمنين، فإنه بقي علي. قال:

 وما بقي عليك؟ قال غلام يقود الكلب. قال:

 وغلام يقود الكلب. قال:

 وخادم يطبخ لنا الصيد. قال:

 وخادم يطبخ الصيد. قال ودار نسكنها. قال:

 ودار تسكنها. قال وجارية نأوي إليه. قال:

 وجارية تأوي إليها. قال:

 قد بقى الآن المعاش، قال:

 قد أقطعناك ألفي جريب عامرة وألفي جريب غامرة. قال:

 وما الغامرة يا أمير المؤمنين؟ قال:

 التي لا تعمر. قال:

 أنا أقطع أمير المؤمنين خمسين ألفاً من فيافي بني أسد. قال قد جعلتها كلها لك عامرة. قال:

 فيأذن لي أمير المؤمنين في تقبيل يده؟ قال:

 أما هذه فدعها. قال:

 ما منعتني شيئاً أيسر هي أم ولدي فقداً منه.

ودخل أبو دلامة على أبي جعفر المنصور يوماً وعليه قلنسوة طويلة - وكان قد أخذ أصحابه بلبسها وأخذهم بلبس دراريع عليها مكتوب بين كتفي الرجل:

 " فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم " وأمرهم بتعليق السيوف على أوساطهم - فدخل عليه أبو دلامة في ذلك الزي، فقال له:

 كيف أصبت أبا دلامة؟ قال:

 بشر حال يا أمير المؤمنين. قال:

 كيف ذلك؟ ويلك! قال:

 وما ظنك يا أمير المؤمنين بمن أصبح وجهه في وسطه، وسيفه في أسته، وقد نبذ كتاب الله عز وجل وراء ظهره. قال:

 فضحك أبو جعفر، وأمر بتغيير ذلك، وأمر لأبي دلامة بصلة.

وأوصل أبو دلامة إلى العباس بن المنصور رقعة فيها هذه الأبيات:


قف بالديار وأي الدهر لم تقف

***

 على منازل بين الظهر والنجف

وما وقوفك في أطلال منزلة

***

 لولا الذي استحدثت في قلبك الكلف

إن كنت أصبحت مشغوفاً بجارية

***

 فلا وربك لا تشفيك من شغف

ولا تزيدك إلا العل من أسف

***

 فهل لقلبك من صبر على الأسف


هذي مقالة شيخ من بني أسد

***

 يهدي السلام إلى العباس في الصحف

تخطها من جواري المصر كاتبة

***

 قد طالما ضربت في اللام والألف

وطالما اختلفت صيفاً وشاتية

***

 إلى معلمها باللوح والكتف

حتى إذا ما استوى الثديان وامتلأت

***

 منها وخيفت على الإسراف والقرف

صينت ثلاث سنين ما ترى أحداً

***

 كما تصان ببحر درة الصدف

بينا الفتى يتمشى نحو مسجده

***

 مبادراً لصلاة الصبح بالسدف

حانت لن نظرة منها فأبصرها

***

 مطلة بين سجفيها من الغرف

فخر في الترب ما يدري غداتئذ

***

 أخر منكشفاً أم غير منكشف

وجاءه القوم أفواجاً بمائهم

***

 لينضحوا الرجل المغشى بالنطف

فوسوسوا بقران في مسامعه

***

 خوفاً من الجن والإنسان لم يخف

شيئاً ولكنه من حب جارية

***

 أمسى وأصبح من موت على شرف

قالوا:

 لك الخير ما أبصرت؟ قلت لهم

***

 جنية أقصدتني من بني خلف

أبصرت جارية محجوبة لهم

***

 تطلعت من أعالي القصر ذي الشرف

فقلت من أيكم والله يأجره

***

 يعير قوته مني إلى ضعفي

فقام شيخ بهي من تجارهم

***

 قد طالما خدع الأقوام بالحلف

فابتاعها لي بألف أحمر فغدا

***

 بها إلي فألقاها على كتفي

فبت ألثمها طوراً وتلثمني

***

 طوراً ونفعل بعض الشيء في اللحف

بتنا كذلك حتى جاء صاحبها

***

 يبغي الدنانير بالميزان ذي الكفف

وذاك حق على زند وكيف به

***

 والحق في طرف والعين في طرف

وبين ذاك شهود لم أبال بهم

***

 أكنت معترفاً أم غير معترف

فإن تصلني قضيت القوم حقهم

***

 وإن تقل لا فحق القوم في تلف

فلما قرأ العباس الأبيات أعجب بها واستظرفها، وقضى عنه ثمن الجارية. واسم أبي دلامة:

 زند.


إبراهيم بن المهدي قال:

 قال لي جعفر بن يحيى يوماً:

 إني استأذنت أمير المؤمنين في الحجامة وأردت أن أخلو وأفر من أشغال الناس وأتوحد. فهل أنت مساعدي قلت:

 جعلني الله فداك، أنا أسعد الناس بمساعدتك، وآنس بمخالاتك. قال:

 فكر إلي بكور الغراب. قال:

 فأتيت عند الفجر الثاني فوجدت الشمعة بين يديه، وهو قاعد ينتظرني للميعاد. قال:

 فصلينا ثم أفضنا في الحديث حتى جاء وقت الحجامة، فأتى بحجام وحجمنا في ساعة واحدة، ثم قدم إلينا طعام فطعمنا. فلما غسلنا أيدينا خلع علينا ثياب المنادمة، وضمخنا بالخلوق، وظللنا بأسر يوم مر بنا. ثم إنه ذكر حاجة فدعا الحاجب، فقال:

 إذا جاء عبد الملك القهرماني فأذن له. فنسي الحاجب، وجاء عبد الملك بن صالح الهاشمي، على جلالته وسنه وقدره وأدبه، فإذن له الحاجب. فما راعنا إلا طلعة عبد الملك. فتغير لذلك جعفر بن يحيى وتنغص عليه ما كان فيه. فلما نظر عبد الملك إليه على تلك الحال دعا غلامه دفع إليه سيفه وسواده وعمامته، ثم جاء ووقف على باب المجلس، وقال:

 اصنعوا بي ما صنعتم بأنفسكم. قال:

 فجاء الغلام فطرح عليه ثياب المنادمة. ودعا بالطعام فطعم، ثم دعا بالشراب فشرب ثلاثاً، ثم قال:

 ليخفف عني، فإن شيء ما شربته قط. فتهلل وجه جعفر وفرح به، وكان الرشيد قد عتب على عبد الملك بن صالح ووجد عليه. فقال له جعفر بن يحيى:

 جعلني الله فداك، قد تفضلت وتطولت وأسعدت، فهل من حاجة تبلغها مقدرتي، أو تحيط بها نعمتي فأقضيها لك مكافأة لما صنعت؟ قال:

 بلى، إن قلب أمير المؤمنين عاتب علي، فسله الرضا عني. قال:

 قد رضي عنك أمير المؤمنين. ثم قال:

 علي أربعة آلاف دينار. قال حاضرة، ولكن من مال أمير المؤمنين أحب إليك. قال:

 وابني إبراهيم أحب أن أشد ظهره بصهر من أولاد أمير المؤمنين. قال:

 قد زوجه أمير المؤمنين ابنته عائشة. قال:

 وأحب أن تخفق الألوية على رأسه. قال:

 قد ولاه أمير المؤمنين على مصر. قال:

 وانصرف عبد الملك، ونحن نعجب من إقدامه على قضاء الحوائج من غير استئذان أمير المؤمنين. فلما كان من الغد وقفنا على باب الرشيد ودخل جعفر، فلم نلبث أن دعي بأبي يوسف القاضي ومحمد بن الحسن وإبراهيم بن عبد الملك، فعقد النكاح، وحملت البدر إلى منزل عبد الملك، وكتب سجل إبراهيم على مصر. وخرج جعفر فأشار إلينا. فلما صار إلى منزله ونحن خلفه، نزل ونزلنا بنزوله. فالتفت إلينا فقال:

 تعلقت قلوبكم بأول أمر عبد الملك فأحببتم معرفة آخره، وإني لما دخلت على أمير المؤمنين ومثلت بين يديه ابتدأت القصة من أولها كما كانت، فجعل يقول:

 أحسن والله! أحسن والله! فما صنعت؟ فأخبرته بما سأله وبما أجبته به. فجعل يقول في ذلك:

 أحسنت، أحسنت! وخرج إبراهيم والياً على مصر.

قدم رجل على ملك من ملوك الأكاسرة، فمكث ببابه حيناً لا يصل إليه، فتلطف في رقعة أوصلها إليه، وفيها أربعة أسطر:

 في السطر الأول:

 الضر والأمل أقدماني عليك.

والسطر الثاني:

 الفقر لا يكون معه صبر على المطالبة.

السطر الثالث:

 الانصراف بلا فائدة فتنة وشماتة للعدو.

والسطر الرابع:

 فإما نعم مثمرة، وإما لا مريحة.

فلما قرأها وقع تحت كل سطر منها بألف مثقال وأمر له بها.

ودخل رجل من الشعراء على يحيى بن خالد بن برمك فأنشده:


سألت الندى هل أنت حر فقال لا

***

 ولكنني عبد ليحيى بن خالد

فقلت شراء قال لا بل وراثة

***

 توارثني عن والد بعد والد

فأمر له بعشر آلاف.

ودخل أعرابي على خالد بن عبد الله القسري فأنشده:


أخالد إن لم أزرك لخلة

***

 سوى أنني عاف وأنت جواد

أخالد بين الحمد والأجر حاجتي

***

 فأيهما تأتي فأنت عماد

فأمر له بخمسة آلاف درهم.

ومن قولنا في هذا المعنى. ودخلت على أبي العباس القائد فأنشدته:


الله جرد للندى والباس

***

 سيفاً فقلده أبا العباس

ملك إذا استقبلت غرة وجهه

***

 قبض الرجاء إليك روح إلياس

وجه عليه من الحياء سكينة

***

 ومحبة تجري مع الأنفاس

وإذا أحب الله يوماً عبده

***

 ألقى عليه محبة للناس

ثم سألته حاجة فيها بعض الغلظ. فتلكأ فيها علي، فأخذت سحاية من بين يديه فوقعت فيها على البديهة:



ما ضر عندك حاجتي ما ضرها

***

 عذراً إذا أعطيت نفسك قدرها

انظر إلى عرض البلاد وطولها

***

 أولست أكرم أهلها وأبرها

حاشى لجودك أن يوعر حاجتي

***

 ثقتي سهلت لي وعرها

لا يجتني حلو المحامد ماجد

***

 حتى يذوق من المطالب مرها

فقضى الحاجة وسارع إليها.

وأبطأ عبد الله بن يحيى عن الديوان، فأرسل إليه المتوكل يتعرف خبره، فكتب إليه:


عليل من مكانين

***

 من الإفلاس والدين

ففي هذين لي شغل

***

 وحسبي شغل هذين

فبعث إليه بألف دينار.

عبد الله بن منصور قال:

 كنت يوماً في مجلس الفضل بن يحيى. فأتاه الحاجب فقال:

 إن بالباب رجلاً قد أكثر في طلب الإذن وزعم أن له يداً يمت بها. فقال:

 أدخله. فدخل رجل جميل الوجه رث الهيئة. فسلم فأحسن. فأومأ إليه بالجلوس، فجلس. فلما علم أنه قد انطلق وأمكنه الكلام قال له:

 ما حاجتك؟ قال له:

 قد أعربت بها رثاثة هيئتي وضعف طاقتي. قال:

 أجل، فما الذي تمت به؟ قال:

 ولادة تقرب من ولادتك، وجوار يدنو من جوارك، واسم مشتق من اسمك. قال:

 أما الجوار فقد يمكن أن يكون كما قلت، وقد يوافق الاسم الاسم، ولكن ما علمك بالولادة؟ قال:

 أعلمتني أمي أنها لما وضعتني، قيل:

 إنه ولد الليلة ليحيى بن خالد غلام وسمي الفضل، فسمتني فضيلاً، إعظاماً لاسمك أن تلحقني به. فتبسم الفضل وقال:

 كم أتى عليك من السنين؟ قال:

 خمس وثلاثون سنة. قال:

 صدقت، هذا المقدار الذي أتيت عليه، فما فعلت أمك؟ قال:

 توفيت رحمها الله. قال:

 فما منعك من اللحوق بنا فيما مضى؟ قال:

 لم ارض نفسي للقائك لأنها كانت في عامية وحداثة تقعدني عن لقاء الملوك. قال:

 يا غلام، أعطه لكل عام مضى من سنيه ألفاً، وأعطه من كسوتنا ومراكبنا ما يصلح له. فلم يخرج من الدار إلا وقد طاف به إخوانه وخاصة أهله.

وكتب حبيب بن أوس الطائي إلى أحمد بن أبي داود:


اعلم وأنت المرء غير معلموافهم جعلت فداك غير مفهم

أن اصطناع العرف ما لم توله

***

 مستكملاً كالثوب ما لم يعلم

والشكر ما لم يستثر بصنيعةكالخط تقرؤه وليس بمعجم

وتفنني في القول إكثار وقد

***

 أسرجت في كرم الفعال فألجم.

وقال دعبل بن علي الخزاعي في طاهر بن الحسين صاحب خراسان:


أيا ذا اليمينين والدعوتين

***

 ومن عنده العرف والنائل

أترضى لمثلى أنى مقيم

***

 ببابك مطرح خامل

رضيت من الود والعائدات

***

 ومن كل ما أمل الآمل

بتسليمة بين خمس وست

***

 إذا ضمك المجلس الحافل

وما كنت أرضى بذا من هسواك

***

 أيرضى بذا رجل عاقل

وإن ناب شغل ففي دون ما

***

 تدبره شغل شاغل

عليك السلام فإني امرؤ

***

 إذا ضاق بي بلد راحل

الأصمعي قال:

 ونظر زياد إلى رجل من ضبة يأكل أكلاً قبيحاً، وهو أقبح الناس وجهاً، فقال:

 يا أخا ضبة، كم عيالك؟ قال:

 سبع بنات أنا أجمل منهن وجهاً، وهن آكل مني:

 فضحك زياد وقال:

 لله درك! ما ألطف سؤالك! افرضوا له و لكل واحدة منهن مائة وخادماً، وعجلوا له و لهن أرزاقهم. فخرج الصبي وهو يقول:


إذا كنت مرتاد السماحة والندى

***

 فناد زياداً أو أخاً لزياد

يجبك امرؤ يعطى على الحمد ما له

***

 إذا ضن بالمعروف كل جواد

ومالي لا أثنى عليك وإنما

***

 طريفي من معرو

لطيف الاستمناح لطيف الاستمناح

تعليقات