ما يأخذ به السلطان من الحزم والعزم
ما يأخذ به السلطان من الحزم والعزم
قالت الحكماء:
أحزم الملوك من قهر جده هزله، وغلب رأيه هواه، وجعل له الفكر صاحباً يحسن له العواقب، وأعرب عن ضميره فعله ولم يخدعه رضاه عن سخطه، ولا غضبه عن كيده.
وقال عبد الملك بن مروان لابنه الوليد، وكان ولي عهده:
يا بني، اعلم أنه ليس بين السلطان وبين أن يملك الرعية أو تملكه الرعية إلا حزم أو توان.
وقالوا:
لا ينبغي للعاقل أن يستصغر شيئاً من الخطأ أو الزلل، فإنه متى ما استصغر الصغير يوشك أن يقع الكبير؛ فقد رأينا الملوك تؤتى من العدو المحتقر، ورأينا الصحة تؤتى من الداء اليسير، ورأينا الأنهار تتدفق من الجداول الصغار.
وقالوا:
لا يكون الذم من الرعية لراعيها إلا لإحدى ثلاث:
كريم قصر به عن قدره فاحتمل لذلك ضغناً، أو لئيم بلغ به إلى ما لا يستحق فأورثه ذلك بطراً، أو رجل منع حظه من الإنصاف فشكا تفريطا.
ومن كتاب للهند:
خير الملوك من أشبه النسر حوله الجيف، لا من أشبه الجيف حولها النسور.
وقيل لملك سلب ملكه:
ما الذي سلبك ملكك؟ فقال:
دفع شغل اليوم إلى غد، والتماس عدة بتضييع عدد، واستكفاء كل مخدوع عن عقله. والمخدوع عن عقله من بلغ قدراً لا يستحقه، أو أثيب ثواباً لا يستوجبه.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
انتهزوا هذه الفرص فإنها تمر مر السحاب، ولا تطلبوا أثراً بعد عين.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحزم الخلفاء. كانت عائشة رضي الله عنها إذا ذكر عمر قالت:
كان والله أحوزياً نسيج وحده، وقد أعد للأمور أقرانها.
وقال المغيرة بن شعبة:
ما رأيت أحداً هو أحزم من عمر، كان والله له فضل يمنعه أن يخدع، وعقل يمنعه أن يخدع.
وقال عمر:
لست بخب، والخب لا يخدعني.
ومر عمر رضي الله عنه ببنيان يبنى بآجر وجص فقال:
لمن هذا؟ قيل:
لعاملك على البحرين. فقال:
أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها. فأرسل فشاطره ماله.
وكان سعد بن أبي وقاص يقال له:
المستجاب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
اتقوا دعوة سعد. فلما شاطره عمر ماله، قال له سعد:
لقد هممت. قال له عمر:
بأن تدعو علي؟ قال:
نعم. قال:
إذا لا تجدني بدعاء ربي شقيا.
وهجا رجل الشعراء سعد بن أبي وقاص يوم القادسية، فقال:
ألم تر أن الله اظهر دينه
***
وسعد بباب القادسية معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة
***
ونسوة سعد ليس فيهن أيم
فقال سعد:
اللهم اكفني يده ولسانه، فقطعت يده وبكم لسانه.
ولما عزل عمر أبا موسى الأشعري عن البصرة وشاطره ماله، وعزل أبا هريرة عن البحرين وشاطره ماله، وعزل الحارث بن كعب بن وهب وشاطره ماله، دعا أبا موسى فقال له:
ما جاريتان بلغني أنهما عندك، إحداهما عقيلة، والأخرى من بنات الملوك؟ قال:
أما عقيلة فإنها جارية بيني وبين الناس، وأما التي هي من بنات الملوك فإني أردت بها غلاء الفداء. قال:
فما جفنتان تعملان عندك؟ قال:
رزقتني شاة في كل يوم، فيعمل نصفها غدوة ونصفها عشية. قال:
فما مكيالان بلغني أنهما عندك؟ قال:
أما أحدهما فأوفي به أهلي وديني. وأما الآخر فيتعامل الناس به. فقال:
ادفع إلينا عقيلة، والله إنك لمؤمن لا تغل، أو فاجر مبل، أرجع إلى عملك عاقصاً بقرنك، مكتسعاً بذنبك. والله إن بلغني عنك أمر لم أعدك.
ثم دعا أبا هريرة فقال له:
هل علمت من حين أني استعملتك على البحرين، وأنت بلا نعلين، ثم بلغني أنك ابتعت أفراساً بألف دينار وستمائة دينار؟ قال:
كانت لنا أفراس تناتجت، وعطايا تلاحقت. قال:
قد حسبت لك رزقك ومؤونتك وهذا فضل فأده. قال:
ليس لك ذلك. قال بلى والله وأوجع ظهرك. ثم قام إليه بالدرة فضربه حتى أدماه، ثم قال:
إيت بها. قال:
احتسبتها عند الله. قال:
ذلك لو أخذتها من حلال وأديتها طائعاً. أجئت من أقصى حجر البحرين يجبي الناس لك لا لله ولا للمسلمين! ما رجعت بك أميمة إلا لرعية الحمر. وأميمة أم أبي هريرة.
وفي حديث أبي هريرة، قال:
لما عزلني عمر عن البحرين قال لي:
يا عدو الله وعدو كتابه، سرقت مال الله؟ قال:
فقلت:
ما أنا عدو الله ولا عدو كتابه، ولكني عدو من عاداهما، ما سرقت مال الله. قال:
فمن أين لك عشرة آلاف؟ قلت:
خيل تناتجت، وعطايا تلاحقت، وسهام تتابعت. قال:
فقبضها مني. فلما صليت الصبح استغفرت لأمير المؤمنين. فقال لي بعد ذلك:
ألا تعمل؟ قلت:
لا. قال:
قد عمل من هو خير منك، يوسف صلوات الله عليه. قلت:
إن يوسف نبي وابن نبي وأنا ابن أميمة، أخشى أن يشتم عرضي ويضرب ظهري وينزع مالي.
قال:
ثم دعا الحارث بن كعب بن وهب فقال:
ما قلاص وأعبد بعتها بمائتي دينار؟ قال:
خرجت بنفقة معي فتجرت فيها. فقال:
أما والله ما بعثناكم لتتجروا في أموال المسلمين! أدها. فقال:
أما والله لا عملت عملاً بعدها أبداً. قال:
انتظر حتى استعملك.
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص، وكان عامله على مصر:
من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص، سلام عليك، أما بعد، فإنه بلغني أنك فشت لك فاشية من خيل وإبل وغنم وبقر وعبيد. وعهدي بك قبل ذلك أن لا مال لك، فاكتب إلي من أين أصل هذا المال ولا تكتمه.
فكتب إليه:
من عمرو بن العاص إلى عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين. سلام عليك. فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد. فإنه أتاني كتاب أمير المؤمنين يذكر فيه ما فشا لي، وأنه يعرفني قبل ذلك ولا مال لي. وإني اعلم أمير المؤمنين أني ببلد السعر به رخيص، وأني من الحرفة والزراعة ما يعالجه أهله، وليس في رزق أمير المؤمنين سعة. وبالله لو رأيت خيانتك حلالاً ما خنتك، فأقصر أيها الرجل، فإن لنا أحساباً هي خير من العمل لك، إن رجعنا إليها عشنا بها. ولعمري إن عندك من لا يذم معيشته ولا تذم له. وذكرت أن عنك من المهاجرين الأولين من هو خير مني، فأنى كان ذلك ولم نفتح قفلك، ولم نشركك في عملك.
فكتب إليه عمر:
أما بعد، فإني والله ما أنا من أساطيرك التي تسطر، ونسقك الكلام في غير مرجع! وما يغني عنك أن تزكي نفسك، وقد بعثت إليك محمد بن مسلمة فشاطره مالك. فإنكم أيها الرهط الأمراء جلستم على عيون المال ثم لم يعوزكم عذر، تجمعون لأبنائكم، وتمهدون لأنفسكم. أما تجمعون العار، وتورثون النار، والسلام.
فلما قدم عليه محمد بن مسلمة صنع له عمرو طعاماً كثيراً. فأبى محمد بن مسلمة أن يأكل منه شيئاً. فقال له عمر:
أتحرمون طعامنا؟ فقال:
لو قدمت إلي طعام الضيف أكلته، ولكنك قدمت إلى طعاماً هو تقدمة شر. والله لا أشرب عندك الماء، فاكتب لي كل شيء هو لك ولا تكتمه. فشاطره ماله بأجمعه، حتى بقيت نعلاه. فأخذ إحداهما وترك الأخرى. فغضب عمرو بن العاص فقال:
يا محمد بن مسلمة قبح الله زماناً عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب فيه عامل. والله إني لأعرف الخطاب يحمل فوق رأسه حزمة من الحطب وعلى ابنه مثلها، وما منهما إلا في نمرة لا تبلغ رسغيه، والله ما كان العاص بن وائل يرضى أن يلبس الديباج مزوراً بالذهب والفضة. قال له محمد ابن مسلمة:
اسكت، والله عمر خير منك، وأما أبوك وأبوه ففي النار. والله لولا الزمان الذي سبقك فيه لألفيت مقتعد شاة يسرك غزرها ويسوءك بكؤها. فقال عمرو:
هي عندك بأمانة الله. فلم يخبر بها عمر.
ومن حديث زيد بن أسلم عن أبيه قال:
بعث معاوية إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على الشام بمال وأدهم، وكتب إلى أبي سفيان أن يدفع ذلك إلى عمر - يعني بالأدهم القيد - وكتب إلى عمر يقول:
إني وجدت في حصون الروم جماعة من أسارى المسلمين مقيدين بقيود حديد، أنفذت منها هذا ليراه أمير المؤمنين - وكانت العرب قبل ذلك تقيد بالقيد. قال الفرزدق:
أو لجدل الأداهم - فخرج الرسول حتى قدم على سفيان بالمال والأدهم قال:
فذهب أبو سفيان بالأدهم والكتاب إلى عمر واحتبس المال لنفسه. فلما قرأ عمر الكتاب، قال له:
فأين المال يا أبا سفيان؟ قال:
كان علينا دين ومعونة، ولنا في بيت المال حق، فإذا أخرجت لنا شيئاً قاصصتنا به. فقال عمر:
اطرحوه في الأدهم حتى يأتي بالمال. قال:
فأرسل أبو سفيان من أتاه بالمال. فأمر عمر بإطلاقه من الأدهم. فلما قدم الرسول على معاوية، قال له:
رأيت أمير المؤمنين اعجب بالأدهم؟ قال:
نعم، وطرح فيه أباك. قال:
ولم؟ قال جاءه بالأدهم وحبس المال؛ قال:
إي والله، والخطاب لو كان لطرحه فيه.
زار أبو سفيان معاوية بالشام، فلما رجع من عنده دخل على عمر. فقال:
أجزنا أبا سفيان. قال:
ما أصبنا شيئاً فنجيزك منه. فأخذ عمر خاتمه، فبعث به إلى هند، وقال للرسول:
قل لها:
يقول لك أبو سفيان:
انظري إلى الخرجين اللذين جئت بهما فأحضريهما. فما لبث عمر أن أتي بخرجين فيهما عشرة آلاف درهم. فطرحهما عمر في بيت المال. فلما ولي عثمان ردهماً عليه. فقال أبو سفيان:
ما كنت لآخذ مالا عابه علي عمر.
ولما ولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عتبة بن أبي سفيان الطائف وصدقاتها ثم عزله، تلقاه في بعض الطريق، فوجد معه ثلاثين ألفاً، فقال:
أنى لك هذا؟ قال:
والله ما هو لك ولا للمسلمين، ولكنه مال خرجت به لضيعة أشتريها. فقال عمر:
عاملنا وجدنا معه مالاً، ما سبيله إلا بيت المال، ورفعه. فلما ولى عثمان قال لعتبة:
هل لك في هذا المال فإني لم أر لأخذ ابن الخطاب فيه وجهاً؟ قال:
والله إن بنا إليه لحاجة، ولكن لا ترد على من قبلك فيرد عليك من بعدك.
القحذمي قال:
ضرب عمر رجلاً بالدرة فنادى:
يا لقصي. فقال أبو سفيان:
يا بن أخي، لو قبل اليوم تنادي قصياً لأتتك منها الغطاريف. فقال له عمر:
اسكت لا أبالك. قال أبو سفيان:
ها، ووضع سبابته على فيه.
خليفة بن خياط قال:
كتب يزيد بن الوليد، المعروف بالناقص - وإنما قيل له الناقص لفرط كماله - إلى مروان بن محمد - وبلغه عنه تلكؤ في بيعته - :
أما بعد، فإني أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت والسلام. فأتته بيعته.
ولما منع أهل مرو أبا غسان الماء وزجته إلى الصحارى، كتب إليهم أبو غسان:
إلى بني الأستاه من أهل مرو، ليمسيني الماء أو لتصبحنكم الخيل. فما أمسى حتى أتاه الماء. فقال:
الصدق ينبئ عنك لا الوعيد.
وكتب عبد الله بن طاهر الخراساني إلى الحسن بن عمر التغلبي:
أما بعد، فقد بلغني ما كان من قطع الفسقة الطريق ما بلغ، فلا الطريق تحمي، ولا اللصوص تكفي، ولا الرعية ترضي، وتطمع بعد هذا في الزيادة! إنك لمنفسح الأمل! وأيم الله لتكفيني من قبلك أو لأوجهن إليك رجالا لا تعرف مرة من جهم، ولا عدي من رهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكتب الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم، واليه بخراسان:
أما بعد، فإن وكيع بن حسان كان بالبصرة منه ما كان، ثم صار لصاً بسجستان، ثم صار إلى خراسان، فإذا أتاك كتابي هذا فاهدم بناءه واحلل لواءه. وكان على شرطة قتيبة فعزله، وولى الضبي عم مسعود بن الخطاب.
وبلغ الحجاج أن قوماً من الأعراب يفسدون الطريق، فكتب إليهم:
أما بعد، فإنكم قد استخفتكم الفتنة، فلا عن حق تقاتلون، ولا عن منكر تنهون، وإني أهم أن ترد عليكم مني خيل تنسف الطارف والتالد، وتدع النساء أيامى، والأبناء يتامى، والديار خراباً.
فلما أتاهم كتابه كفوا عن الطريق.
ما يأخذ به السلطان من الحزم والعزم ما يأخذ به السلطان من الحزم والعزم
۞۞۞۞۞۞۞۞
كتاب اللؤلؤة في السلطان ﴿ 12 ﴾
۞۞۞۞۞۞۞۞
ما يأخذ به السلطان من الحزم والعزم ما يأخذ به السلطان من الحزم والعزم