الوفود على عمر بن الخطاب
الوفود على عمر بن الخطاب
وفود جبلة بن الأيهم
على عمر بن الخطاب رضي الله عنه
العجلى قال:
حدثني أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر بن الأجدع الكوفي بهيت، قال:
حدثني إبراهيم بن علي مولى بني هاشم، قال:
حدثنا ثقات شيوخنا:
أن جبلة بن الأيهم بن أبي شمر الغساني لما أراد أن يسلم كتب إلى عمر بن الخطاب من الشام يعلمه بذلك يستأذنه في القدوم عليه، فسر بذلك عمر والمسلمون، فكتب إليه أن أقدم ولك ما لنا وعليك ما علينا:
فخرج جبلة في خمسمائة فارس من عك وجفنة، فما دنا من المدينة ألبسهم ثياب الوشي المنسوج بالذهب والفضة، ولبس يومئذ جبلة تاجه وفيه قرط مارية، وهي جدته، فلم يبق يومئذ بالمدينة أحد إلا خرج ينظر إليه حتى النساء والصبيان، وفرح المسلمون بقدومه وإسلامه، حتى حضر الموسم من عامه ذلك مع عمر بن الخطاب، فبينما هو يطوف بالبيت إذ وطئ على إزاره رجل من بني فزارة فحله، فالتفت إليه جبلة مغضباً، فلطمه فهشم أنفه، فاستعدى عليه الفزاري عمر بن الخطاب، فبعث إليه فقال:
ما دعاك يا جبلة إلى أن لطمت أخاك هذا الفزاري فهشمت أنفه؟ فقال:
إنه وطئ أزاري فحله، ولولا حرمة هذا البيت لأخذت الذي في عيناه؛ فقال له عمر:
أما أنت فقد أقررت، إما أن ترضيه وإلا أقدته منك؛ قال:
أتقيده مني وأنا ملك وهو سوقة؟ قال:
يا جبلة، إنه قد جمعك وإياه الإسلام، فما تفضله بشيء إلا بالعافية؛ قال:
والله لقد رجوت أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية؛ قال عمر:
دع عنك ذلك؛ قال:
إذن أتنصر؛ قال:
إن تنصرت ضربت عنقك. قال:
واجتمع قوم جبلة وبنو فزارة فكادت تكون فتنة؛ فقال جبلة:
أخرني إلى غد يا أمير المؤمنين؛ قال:
ذلك لك. فلما كان جنح الليل خرج هو وأصحابه، فلم يئن حتى دخل القسطنطينية على هرقل فتنصر، وأقام عنده، وأعظم هرقل قدوم جبلة وسر بذلك، وأقطعه الأموال والأرضي والرباع. فلما بعث عمر بن الخطاب رسولاً إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام أجابه إلى المصالحة على غير الإسلام، فلما أراد أن يكتب جواب عمر، قال للرسول:
ألقيت ابن عمك هذا الذي ببلدنا - يعني جبلة - الذي أتانا راغباً في ديننا؟ قال:
ما لقيته؛ قال:
آلقه، ثم ائتني أعطك جواب كتابك. وذهب الرسول إلى باب جبلة، فإذا عليه من القهارمة والحجاب والبهجة وكثر الجمع مثل ما على باب هرقل. قال الرسول:
فلم أزل أتلطف في الإذن، حتى أذن لي، فدخلت عليه، فرأيت رجلاً أصهب اللحية ذا سبال، وكان عهدي به أسمر أسود اللحية والرأس، فنظرت إليه فأنكرته، فإذا هو قد دعا بسحالة الذهب فذرها في لحيته حتى عاد أصهب، وهو قاعد على سرير من قوارير، قوائمه أربعة أسود من ذهب، فلما عرفني رفعني معه في السرير، فجعل يسائلني عن المسلمين، فذكرت خيراً وقلت:
قد أضعفوا أضعافاً على ما تعرف؛ فقال:
كيف تركت عمر ابن الخطاب؟ قلت:
بخير، فرأيت الغم قد تبين فيه، لما ذكرت له من سلامة عمر؛ قال:
فانحدرت عن السرير؛ فقال:
لم تأبى الكرامة التي أكرمناك بها؟ قلت:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا؛ قال:
نعم، صلى الله عليه وسلم، ولكن نق قلبك من الدنس، ولا تبال علام قعدت. لما سمعته يقول:
صلى الله عليه وسلم، طمعت فيه؛ فقلت له:
ويحك يا جبلة! ألا تسلم وقد عرفت الإسلام وفضلة؟ قال:
أبعدها ما كان مني؟ قلت:
نعم، قد فعل رجل من بني فزارة أكثر مما فعلت، ارتد عن الإسلام وضرب وجوه المسلمين بالسيف، ثم رجع إلى الإسلام، وقبل ذلك منه، وخلفه بالمدينة مسلماً؛ قال:
ذرني من هذا، إن كنت تضمن لي أن يزوجني عمر ابنته ويوليني الأمر من بعده رجعت إلى الإسلام؛ قال:
ضمنت لك التزوج، ولم أضمن لك الإمرة؛ قال:
فأومأ إلى خادم بين يديه، فذهب مسرعاً، فإذا خدم قد جاءوا يحملون الصناديق فيها الطعام، فوضعت ونصبت موائد الذهب وصحاف الفضة، وقال لي:
كل، فقبضت يدي، وقلت:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل في آنية الذهب والفضة، فقال نعم، صلى الله عليه وسلم، ولك نق قلبك وكل فيما أحببت، قال:
فأكل في الذهب والفضة وأكلت في الخليج، فلما رفع الطعام جيء بطساس الفضة وأباريق الذهب، وأومأ إلى خادم بين يديه، فمر مسرعاً، فسمعت حساً، فالتفت، فإذا خدم معهن الكراسي مرصعة بالجواهر، فوضعت عشرة عن يمينه وعشرة عن يساره، ثم سمعت حساً، فإذا عشر جوار قد أقبلن مطمومات الشعر متكسرات في الحلي عليهن ثياب الديباج، فلم أر وجوها قط أحسن منهن، فأقعدهن على الكراسي عن يمينه ثم
سمعت حساً، فإذا عشر جوار أخرى، فأجلسهن على الكراسي عن يساره، ثم سمعت حساً، فإذا جارية كأنها الشمس حسناً وعلى رأسها تاج، وعلى ذلك التاج طائر لم أر أحسن منه، وفي يدها اليمنى جام فيه مسك وعنبر، وفي يدها اليسرى جام فيه ماء ورد؛ فأومأت إلى الطائر، أو قال فصفرت بالطائر، فوقع في جام ماء الورد فاضطرب فيه، ثم أومأت إليه، أو قال فصفرت به، فطار حتى نزل على صليب في تاج جبلة، فلم يزل يرفرف حتى نفض ما ريشه عليه، وضحك جبلة من شدة السرور حتى بدت أنيابه، ثم التفت إلى الجواري اللواتي عن يمينه، فقال:
بالله أطربنني. فاندفعن يتغنين يخفقن بعيدانهن ويقلن:
معت حساً، فإذا عشر جوار أخرى، فأجلسهن على الكراسي عن يساره، ثم سمعت حساً، فإذا جارية كأنها الشمس حسناً وعلى رأسها تاج، وعلى ذلك التاج طائر لم أر أحسن منه، وفي يدها اليمنى جام فيه مسك وعنبر، وفي يدها اليسرى جام فيه ماء ورد؛ فأومأت إلى الطائر، أو قال فصفرت بالطائر، فوقع في جام ماء الورد فاضطرب فيه، ثم أومأت إليه، أو قال فصفرت به، فطار حتى نزل على صليب في تاج جبلة، فلم يزل يرفرف حتى نفض ما ريشه عليه، وضحك جبلة من شدة السرور حتى بدت أنيابه، ثم التفت إلى الجواري اللواتي عن يمينه، فقال:
بالله أطربنني. فاندفعن يتغنين يخفقن بعيدانهن ويقلن:
لله در عصابة نادمتهم
***
يوماً بجلق في الزمان الأول
يسقون من وريد البريص، عليهم
***
بردى يصفق بالرحيق السلسل
أولاد جفنة حول قبر أبيهم
***
قبر ابن مارية الكريم المفضل
يغشون حتى ما تهر كلابهم
***
لا يسألون عن السواد المقبل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم
***
شم الأنوف من الطراز الأول
قال:
فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال:
أتدري من قائل هذا؟ قلت:
لا، قال:
قائله حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التفت إلى الجواري اللاتي عن يساره، فقال:
بالله أبكيننا، فاندفعن يتغنين يخفقن بعيدانهن ويقلن:
لمن الدار أقفرت بمعان
***
بين أعلى اليرموك فالخمان
ذاك مغنى لآل جفنة في الدهر
***
محلاً لحادث الأزمان
قد أراني هناك دهراً مكيناً
***
عند ذلك التاج مقعدي ومكاني
ودنا الفصح فالولائد ينظمن
***
سراعاً أكلة المرجان
لم يعللن بالمغافير والصمغ
***
ولا نقف حنظل الشريان
قال:
فبكى حتى جعلت الدموع تسيل على لحيته، ثم قال:
أتدري من قائل هذا؟ قلت لا أدري؛ قال:
حسان بن ثابت. ثم أنشأ يقول:
تنصرت الأشراف من عار لطمة
***
وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني منها لجاج ونخوة
***
وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني
***
رجعت إلى الأمر الذي قال لي عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة
***
وكنت أسيراً في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشة
***
أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
ثم سألني عن حسان:
أحي هو؟ قلت:
نعم، تركته حياً. فأمر لي بكسوة ومال، ونوق موقرة برا، ثم قال لي:
إن وجدته حياً، فادفع إليه الهدية وأقرئه سلامي، وإن وجدته ميتاً فادفعها إلى أهله، وانحر الجمال على قبره. فلما قدمت على عمر أخبرته خبر جبلة وما دعوته إليه من الإسلام، والشرط الذي شرطه، وأني ضمنت له التزوج، ولم أضمن له الإمرة. فقال:
هلا ضمنت له الإمرة؟ فإذا أفاء الله به الإسلام قضى عليه بحكمه عز وجل. ثم ذكرت له الهدية التي أهداها إلى حسان بن ثابت. فبعث إليه، وقد كف بصره؛ فأتي به وقائد يقوده، فلما دخل، قال:
يا أمير المؤمنين، إني لأجد رياح آل جفنة عندك؛ قال:
نعم، هذا رجل أقبل من عنده؛ قال:
هات يا بن أخي، إنه كريم من كرام مدحتهم في الجاهلية فحلف أن لا يلقى أحداً يعرفني إلا أهدى إلي معه شيئاً. فدفعت إليه الهدية:
المال والثياب، وأخبرته بما كان أمر به في الإبل إن وجد ميتاً؛ فقال:
وددت أني كنت ميتاً، فنحرت على قبري.
قال الزبير:
وانصرف حسان وهو يقول:
إن ابن جفنة من بقية معشر
***
لم يغذهم آباؤهم باللوم
لم ينسني بالشام إذ هو ربها
***
مهلكاً ولا متنصراً بالروم
يعطى الجزيل ولا يراه عنده
***
إلا كبعض عطية المذموم
فقال له رجل كان في مجلس عمر:
أتذكر ملوكاً كفرة أبادهم الله وأفناهم؟ قال:
ممن الرجل؟ قال:
مزني؛ قال:
أما والله لولا سوابق قومك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لطوقت؛ طوق الحمامة. قال:
ثم جهزني عمر إلى قيصر وأمرني أن أضمن لجبلة ما اشترط به، فلما قدمت القسطنطينية وجدت الناس منصرفين من جنازته، فعملت أن الشقاء غلب عليه في أم الكتاب.
وفود الأحنف
على عمر بن الخطاب رضي الله عنه
المدائني قال:
قدم الأحنف بن قيس التميمي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أهل البصرة وأهل الكوفة، فتكلموا عنده في أنفسهم وما ينوب كل واحد منهم، وتكلم الأحنف فقال:
يا أمير المؤمنين، إن مفاتيح الخير بيد الله، وقد أتتك وفود أهل العراق، وإن إخواننا من أهل الكوفة والشام ومصر نزلوا منازل الأمم الخالية، والملوك الجبابرة، ومنازل كسرى وقيصر، وبني الأصفر، فهم من المياه العذبة، والجنان المخصبة، في مثل حولاء السلى وحدقة البعير؛ تأتيهم ثمارهم غضة لم تتغير، وإنا نزلنا أرضاً نشاشة، طرف في فلاة وطرف في ملح أجاج، جانب منها منابت القصب، وجانب سبخة نشاشة، لا يجف ترابها، ولا ينبت مرعاها، تأتينا منافعها في مثل مريء النعامة، يخرج الرجل الضعيف منا يستعذب الماء من فرسخين، وتخرج المرأة بمثل ذلك ترنق ولدها ترنيق العنز، تخاف عليه العدو والسبع، فإلا ترفع خسيستنا، وتنعش ركيستنا، وتجبر فاقتنا، وتزيد في عيالنا عيالاً، وفي رجالنا رجالاً، وتصفر درهمنا، وتكبر قفيزنا، وتأمر لنا بحفر نهر نستعذب به الماء هلكنا.
قال عمر:
هذا والله السيد! هذا والله السيد! قال الأحنف:
فما زلت أسمعها بعدها.
فأراد زيد بن جبلة أن يضع منه، فقال:
يا أمير المؤمنين، إنه ليس هناك، وأمه باهلية. قال عمر:
هو خير منك إن كان صادقاً. يريد إن كانت له نية. فقال الأحنف:
أنا ابن الباهلية أرضعتني
***
بثدي لا أجد ولا وخيم
أغض على القذى أجفان عيني
***
إذا شر السفيه إلى الحليم
قال:
فرجع الوفد واحتبس الأحنف عنده حولاً وأشهراً، ثم قال:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حذرنا كل منافق صنع اللسان، وإني خفتك فاحتبستك، فلم يبلغني عنك إلا خير، رأيت لك جولاً ومعقولاً، فارجع إلى منزلك واتق الله ربك. وكتب إلى أبي موسى الأشعري:
أن يحتفر لهم نهراً.
وفود الأحنف وعمرو بن الأهتم
على عمر بن الخطاب رضي الله عنه
العتبي عن أبيه قال:
وفد الأحنف وعمرو بن الأهتم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأراد أن يقرع بينهما في الرياسة، فلما اجتمعت بنو تميم، قال الأحنف:
ثوى قدح عن قومه طالما ثوى
***
فلما أتاهم قال قوموا تناجزوا
فقال عمرو بن الأهتم:
إنا كنا وأنتم في دار جاهلية فكان الفضل فيها لمن جهل، فسفكنا دماءكم، وسبينا نساءكم، وإنا اليوم في دار الإسلام، والفضل فيها لمن حلم، فغفر الله لنا ولك. قال:
فغلب يومئذ عمرو بن الأهتم على الأحنف ووقعت القرعة لآل الأهتم. فقال عمرو بن الأهتم:
لما دعتني للرياسة منقر
***
لدى مجلس أضحى به النجم باديا
شددت لها أزري وقد كنت قبلها
***
لأمثالها مما أشد إزاريا
وعمرو بن الأهتم:
هو الذي تكلم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأله عن الزبرقان؛ فقال عمرو:
مطاع في أدنيه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره. فقال الزبرقان:
والله يا رسول الله، إنه ليعلم مني أكثر مما قال، ولكن حسدني، قال:
أما والله يا رسول الله، إنه لزمر المروءة، ضيق العطن، أحمق الولد، لئيم الخال، والله ما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الأخرى، رضيت عن ابن عمي فقلت أحسن ما علمت، ولم أكذب، وسخطت عليه فقلت أقبح ما علمت، ولم أكذب؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن من البيان لسحراً.
وفود عمرو بن معد يكرب
على عمر بن الخطاب رضي الله عنه
إذ أوفده سعد
لما فتحت القادسية على يدي سعد بن أبي وقاص، أبلى فيها عمرو بن معد يكرب بلاء حسناً، فأوفده سعد على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكتب إليه معه بالفتح وأثنى في الكتاب على عمرو. فلما قدم على عمر بن الخطاب سأله عنه سعد؛ فقال:
أعرابي في نمرته، أسد في تأمورته، نبطي في جبايته، يقسم بالسوية، ويعدل في القضية، وينفر في السرية، وينقل إلينا حقنا نقل الذرة. فقال عمر:
لشد ما تقارضتما الثناء. وكان عمر قد كتب إلى سعد يوم القادسية أن يعطى الناس على قدر ما معهم من القرآن. فقال سعد لعمرو بن معد يكرب:
ما معك من القرآن؟ قال:
ما معي شيء؛ قال:
إن أمير المؤمنين كتب إلي أن أعطي الناس على قدر ما معهم من القرآن؛ فقال عمرو:
إذا قتلنا ولا يبكي لنا أحد
***
قالت قريش ألا تلك المقادير
نعطى السوية من طعن له نفذ
***
ولا سوية إذ نعطى الدنانير
قال:
فكتب سعد بأبياته إلى عمر. فكتب إليه أن يعطى على مقاماته في الحرب.
الوفود على عمر بن الخطاب
۞۞۞۞۞۞۞۞
كتاب الجمانة في الوفود ﴿ 13 ﴾
۞۞۞۞۞۞۞۞
الوفود على عمر بن الخطاب